في خطوة فاجأت المراقبين أقدم النظام الستاليني الحاكم في كوريا الشمالية أخيرا على قطع خطوط الاتصال كافة مع كوريا الجنوبية، وهو ما يعني عودة العلاقات بين الطرفين إلى نقطة الصفر، وبالتالي دخول شبه الجزيرة الكورية في موجة جديدة من التوتر والتصعيد من بعد أن ظن كثيرون أن شبح المواجهة والأعمال العدائية العبثية من قبل بيونج يانج قد تلاشى وحل مكانه اتفاق غير مكتوب حول التزام قدر من الهدوء تهيئة للتعاون والسلام.
والحقيقة أن الخطوة لا يمكن وصفها بالمفاجئة لسبب بسيط هو أنه يمكن توقع أي شيء من نظام ديكتاتوري كنظام بيونج يانج حيث القرار الأول والأخير في كل ما يتعلق بالداخل والخارج للزعيم الفرد، وحيث لا يجرؤ كائن من كان على الاعتراض أو إبداء وجهة نظر ما خوفا من التصفية الجسدية.
ويـعتقد أن ما أغضب بيونج يانج، ودعاها إلى هذه الخطوة، هو عدم تشدد سيئول مع الجماعات المدنية المعارضة لنظام بيونج يانج من تلك العاملة من داخل الشطر الجنوبي، خصوصا لجهة منعها مما اعتادت عليه من وقت إلى آخر وهو إطلاق بالونات دعائية معادية عبر المنطقة الحدودية منزوعة السلاح.
وسواء صح هذا الاعتقاد أو لم يصح، فإن مما لاشك فيه أن هذا التطور شكل إهانة شخصية للرئيس الكوري الجنوبي مون جاي إن، الذي عـرف عنه دفاعه المحموم عن فكرة الانفتاح على الشمال، بل إقدامه على المجازفة بسمعته ومستقبله السياسي، وذلك حينما عقد قمة في عام 2018 مع نظيره الشمالي كيم جونج أون، أملا في إذابة الجليد بين الكوريتين على وقع القمم الأمريكية ـ الكورية الشمالية، علما بأن الرئيس مون نجح فعلا في بناء علاقات شخصية جيدة مع نظيره الشمالي ما لبث أن اعتراها الفتور بعد فشل قمة هانوي بين الرئيس الأمريكي دونالد ترمب ونظيره الكوري الشمالي عام 2019، الأمر الذي يؤكد أن علاقات شطري كوريا هي صدى لعلاقات واشنطن ـ بيونج يانج، وأن هناك خطوطا لا تستطيع سيئول تجاوزها في علاقاتها مع بيونج يانج دون موافقة الحليف الأمريكي، بدليل أن سيئول رغم انفتاح رئيسها على الشمال لم تجرأ على الاستجابة لطلبات بيونج يانج المتكررة حول التعاون والتبادل الاقتصادي الذي يعني خرقا للعقوبات الأمريكية المفروضة على كوريا الشمالية، وهو ما أزعج كيم جونج أون وجعله يرفض فكرة الذهاب إلى سيئول لرد الزيارة للرئيس مون (وإن قيل في أسباب الرفض خوف كيم من احتمالات تعرضه لعملية اغتيال).
ولعل الضحية الأولى لخطوة بيونج يانج التصعيدية هذه هي الخط الهاتفي المباشر الذي تقرر إقامته في قمة 2018 لربط القصر الرئاسي الأزرق في سيئول مع مقر إقامة الزعيم "المبجل" كيم جونج أون في بيونج يانج، علاوة على خطوط الاتصالات العسكرية بين قوات البلدين على جانبي المنطقة منزوعة السلاح. وربما نشهد بعد ذلك ضحايا أخرى في صورة إلغاء كل ما تم الاتفاق عليه من أشياء رمزية خلال قمة 2018 مثل نزع أسلحة حرس الحدود على جانبي خط الهدنة، وتخفيض عدد المراكز الحدودية، وعملية تبادل رفات قتلى الحرب الكورية التي دارت رحاها ما بين عامي 1950 و1953.
وإذا ما أخذنا في الحسبان أن قصة البالونات الحرارية، التي تطلق عبر الحدود الفاصلة بين شطري كوريا وتهبط داخل الشطر الشمالي حاملة صورا وشعارات مسيئة للزعيم كيم جونج أون، ليست جديدة كي تـتخذ مبررا لقطع خطوط الاتصال مع سيئول في هذا الوقت تحديدا، فإن احتمال وجود أهداف أخرى تبقى قائمة. فمثلا ربما سعت بيونج يانج من وراء قرارها الضغط على واشنطن كي تعاود الأخيرة فتح خطوط الاتصال معها، في وقت صارت قضية كوريا الشمالية ليست على رأس أولويات الإدارة الأمريكية المنشغلة بملفات خارجية وداخلية أكثر أهمية. أو ربما عمدت من وراء قرارها إلى التنفيس عن احتقان داخلي ما تسببت فيه جائحة كورونا التي لا يعرف العالم الخارجي على وجه الدقة مدى تداعياتها الصحية والمعيشية على الكوريين الشماليين. أو قد تكون بيونج يانج قد اتخذت القرار بناء على توصية من أقرب حليفاتها ردا على ما تواجهه هذه الحليفة من انتقادات أمريكية وغربية ومحاولات لمعاقبتها على خلفية تسببها في جائحة كورونا.
والحال أنه لو كانت هناك قراءة واعية للمتغيرات الدولية والإقليمية، لما أقدمت بيونج يانج على قطع خطوط التواصل مع جارتها الجنوبية في وقت حقق فيه الحزب الديمقراطي الحاكم في سيئول بقيادة الرئيس مون جاي، إن انتصارا برلمانيا كاسحا في الانتخابات العامة الأخيرة في نيسان (أبريل) الماضي، وبما يجعله أكثر قدرة على إطلاق مبادرات سلام شجاعة تجاه الشمال دون أي معارضة يعتد بها من الأحزاب السياسية الأخرى.