لكل مرحلةٍ كلماتُها وعباراتُها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ليبيا في هذه الحقبة تعبرها كلمات تجلبُ أخرى وتطردُ كثراً. النيران تطوف فوق الرؤوس، والانفجارات في كل مكان، والمجتمع ليس لديه مناعة تحصّنه من تلك الانفجارات. كبار السن الذين يسمونهم توقيراً بالمشايخ، لا تكلفهم تلك الصفة سوى ارتداء الزي التقليدي الليبي - الجرد، الموروث من الزمن الروماني، والطاقية ذات اللون الأسود في الغرب والأحمر في الشرق، التي وفدت مع العائدين من الأندلس، ومن يرد أن يكونَ محايداً يعتمر الطاقية البيضاء. الكثيرون في داخل البلاد، وخاصة من الشباب الذين يلوكون كلمة «القبيلة» في استخدام سياسي أو اجتماعي، يغلفونها بمدلول مُنتقى قلّما يكون له علاقة بجذر الكلمة التاريخي والاجتماعي. بالطبع القبيلة موروث إنساني وليس عربياً فحسب، ولكنها سادت بدرجة أكبر في مناطق عربية واسعة وفي حقب ممتدة. في دنيا الصحراء، حيث يتجمع الناس في نجوع تتحرك حسب الأمطار التي بمائها يزرعون، وعلى ما تنبته من كلأ يرعون، في تلك الفجاج لا توجد حكومة تسوسُ الناسَ أو قانون مكتوب يحتكمون إليه، تبدع الحياة ناموساً ينظم النشاط الإنساني وفق ما تفرضه الضرورات البشرية. الجميع ينتمون إلى أصل اجتماعي واحد في الغالب يتشكلون من بطون وأفخاذ متفرعة. تبرز شخصية تمسك زمام المسار وتدير إكراهات الضرر والمنافع. من حماية الكيان ضد الآخر الطامع فيما لديها من أنعام ومراعٍ وآبار أحياناً.
الماء هو الشريان والضرع، بل وأنفاس الروح. الشيخ رأس القبيلة ليس نبتاً عشوائياً، أو شخصية عادية عابرة، هو فرع خاص من أصل أصيل، له قدرات استثنائية تجمع الفراسة والجلد والوعي والحكمة والكرم والعفة. هو الزعيم السياسي والقائد العسكري والقاضي الذي يثق الجميع بعدله ونزاهته. في أحيان كثيرة يحيا الإنسان ويموت ولا يعرف أحداً من خارج ذلك التكوين الاجتماعي.
اليوم يتحدث بعض الساسة العرب عن دور سياسي للقبيلة في ليبيا من دون أن يعرفوا خريطة التكوين الاجتماعي الليبي، والدور الذي لعبه هذا التكوين في الماضي.
في زمن الحكم التركي بما فيه المرحلة القره مانلية، لم يكن للإدارة الرسمية وما قبلها أي اهتمام بتفاصيل الحياة الاجتماعية أو الخدمية وغيرها، كانت كل قبيلة تدير شؤونها اليومية والحياتية بصفة عامة. هناك من يستعيد ما قامت به القبائل الليبية إبان الحرب ضد الاستعمار الإيطالي وإعطائه حمولة سياسية. الأمر مختلف تماماً. بعد الاتفاق بين تركيا وإيطاليا حول ليبيا، وانسحاب تركيا، وجد الليبيون أنفسهم بلا قيادة سياسية أو عسكرية أو مرجعية اجتماعية يستندون إليها أمام غازٍ مدجج بالسلاح. لم يكن هناك كيان سياسي مثلما كان في كل من مصر وتونس. القبيلة هي التكوين الوحيد الحاضر اجتماعياً وولَّد تلقائياً أذرعه العسكرية والسياسية. ما عرف بالأدوار القبلية في المنطقة الشرقية في مواجهة الغزاة الطليان، كان تموضعاً عسكرياً مبتكراً عبر تفاهمات واقعية. حققت انتصارات في مواجهات استمرت لسنوات مع العدو الإيطالي. في الغرب والجنوب خاضت القبائل بشكل منفرد أو بتحالفات متعددة الأطراف معارك متواصلة مع الجيش الإيطالي.
أدرك القادة ضرورة إقامة كيان وطني، فكانت الجمهورية الطرابلسية التي لم تدم طويلاً بسبب الخلافات القبلية.
القبيلة في ليبيا اليوم، ليست هي تلك التي كانت منذ زمن، سواء من حيث المكان والتكوين والمنظومة القيمية ووجود القيادة أي الشيخ وإلى جانبه الحكماء والنسابون الذين يعرفون أشجار القبيلة والعائلات وغصونها وأوراقها. الخرائط تغيرت تماماً، صار للمال فعله وتموجات المصالح. هناك انقسامات رأسية وأفقية واسعة. هذا الجناح من القبيلة يقاتل ضد ابن عمه، بل الأخ يحمل السلاح في وجه شقيقه. الانتماءات الآيديولوجية متفجرات عابرة للفروع والأغصان القبلية. هناك خلط كبير بين الانتماء إلى منطقة والتبعية إلى قبيلة. الكثيرون يحملون ألقاباً تعود إلى منطقة وليس إلى تكوين قبلي، وهناك قبائل تنقسم إلى ما يسمى البيوت وقلما يوجد تواصل بينها.
من يقارن بين ليبيا وأفغانستان يجهل نسيج البلدين. من يحملون السلاح في ليبيا منذ سنوات لم يكن للقبلية أي دور في خياراتهم أو قراراتهم واصطفافاتهم من البداية إلى اليوم، ولا يمكن أن يكون لهم دور في رحاب القادم. منذ البداية في تأسيس الكيان الليبي الاتحادي، لم يتم اختيار قيادات الدولة بمرجعيات قبلية... محمود المنتصر أول رئيس للوزارة، اختاره الملك إدريس لقدراته الإدارية وحنكته السياسية. وبعده الساقزلي لترتيبات من الملك إدريس لتصليب الوحدة الوطنية، مصطفى بن حليم لم يترأس الوزارة بقوة قبلية، بل لأنَّ الملك إدريس عرفه في مصر وفرح به كمهندس ليبي مجتهد. عبد المجيد كعبار، صحيح كانت له قوة اجتماعية مجاهدة، لكنَّه امتلك قدرات القيادة.
محمد بن عثمان الصيد كان من رموز قبيلة الزوية، لكنّه من الشخصيات التي قاومت الاحتلال الفرنسي لفزان، ونافح من أجل الوحدة الليبية. وبعدهم حسين مازق، وعبد الحميد البكوش، ومحيي الدين افكيني، وعبد القادر البدري وونيس القذافي، كلهم شهد لهم الجميع بقدراتهم الإدارية والسياسية.
عبد الحميد العبار، هو من رؤوس قبيلة العواقير، ترأس مجلس الشيوخ لسنوات، ولكن لم يكن مؤهله تحدّره القبلي، بل تاريخه الجهادي، فقد كان هو الرجل الثاني بعد شيخ الشهداء عمر المختار في قيادة المعركة ضد الطليان، إضافة إلى حنكته ووعيه وانحيازه الوطني. وكذلك حامد العبيدي الذي تولى أكثر من وزارة في العهد الملكي، وأحمد وعمر سيف النصر اللذان توليا ولاية فزان، كانا من أبرز قادة الجهاد الليبي وحرصا على وحدة الوطن.
وفي عهد القذافي كان كل من تولى المراكز القيادية، لم تتدخل الاعتبارات القبلية في تنصيبهم، ابتداءً من أعضاء مجلس قيادة الثورة إلى رؤساء الحكومات والوزراء. لم يضع معمر القذافي أحداً من قبيلته في المراكز القيادية في الدولة سوى الزناتي محمد الزناتي، وهو خريج الجامعة الإسلامية وكان عضواً بمجلس النواب في العهد الملكي، وأحمد إبراهيم منصور أميناً للإعلام والتعليم، وإبراهيم علي في الرقابة الإدارية. كل من تولى رئاسة الحكومات في عهد القذافي كان المعيار الحاكم هو القدرة، من دون إغفال إكراهات كل مرحلة.
اليوم ليبيا في حفرة صراع جنوني يخلط فتات ما مضى مع إسقاطات غياب القدرة على تشخيص الأزمة واجتراح الحلول والمخارج.
الحديث عن دور القبيلة اليوم في ليبيا، يغيب عنه الحفر التاريخي والتفكيك السياسي. ما يفيدنا اليوم من استحضار الماضي هو كلمات وحكم الألفة والتسامح الوطني. مقولة الملك إدريس السنوسي «حتحات على ما فات».
هل صارت القبيلة مجرد اسم في مخزن التاريخ؟ لا بالطبع؛ فلها وجود متفاوت من منطقة إلى أخرى، لكن الترابط وبالتالي الفعل ليس ذلك الذي كان في الماضي. الحكمة والشهامة والفزعة التي زرعها الأولون في ثنايا الشخصية الليبية، لا تزال فاعلة.