لم يعد خافياً مسلسل التنسيق بين أردوغان وحزب النهضة التونسي، لجعْل ليبيا خلفية جيوـ استراتيجية للإخوان المسلمين، ولكن بمنظور تركي يهدف إلى دولة الخلافة بالمعنى الإمبراطوري الذي كانت عليه الدولة العثمانية.

أما عن حسابات حزب النهضة، وهو يقبل بالتبعية الإيديولوجية والسياسية لتركيا، فتتمثل في خروجه عن المركزية المصرية الإخوانية، خاصة بعد فشل الإخوان في حفاظهم على الحكم بعد «الحراك العربي» الذي أسقط حسني مبارك، وهذا التوجه الذي دافع عنه راشد الغنوشي كان بمثابة دعوة إلى التجديد الفكري والتنظيمي لحركة الإخوان، على أساس الاستفادة من أخطاء التنظيم وعيوب قراءاتها السياسية التي باتت متجاوزة ولم تعد تتناسب مع تطورات العالم.

وبالرغم من صدور بيان الإخوان بعد أسبوعين على وفاة مرسي، قُدِّم فيه نقد ذاتي وتصريح بإجراء مراجعات تكتيكية واستراتيجية، فإن الغنوشي ظل متمسكاً بالأطروحة الإخوانية الأردوغانية وقبوله بلعب دور سياسي تركي في شمال أفريقيا، خلال لقاء سري جمعه بأردوغان سنة 2017، عقبه لقاء علني في زيارة غير رسمية، لكنها مباشرة بعد توقيع اتفاقيتَين بين أنقرة وفايز السراج في يناير 2020.

الأمر الذي أثار ردود فعل المعارضة التونسية، منددة بالتماهي الأيديولوجي مع تركيا والتبشير بنموذجها السياسي ضد المصلحة الوطنية، خاصة لما تأكد بالواضح توجهات المساندة اللامشروطة من طرف حزب النهضة لتركيا إزاء غزوها لليبيا.

يأتي خروج الغنوشي من المركزية المصرية الإخوانية وقبوله القيام بدور تركي مزدوج، كأداة تنفيذية مؤسسية وكأيديولوجيا للتأثير، لهدف خدمة حزبية ضيقة تقوم على شعار الحزب أولاً والوطن ثانياً، إذ لما تيقن من انخفاض منسوب الثقة فيه على إثر خروجه من الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية الأخيرة بهزيمة مدوية وتعرض شعبيته لتراجع مستمر، بادر إلى استدراك فشل مشروعه المجتمعي بالهروب إلى الأمام عن طريق الاستقواء بتركيا، بحيث منحت هذه الأخيرة قروضاً إلى الحكومة التونسية بفوائد رمزية وعملت على الاستثمار في تونس من خلال 75 شركة قوية، وذلك لتمكين الغنوشي من السلطة، وقوة التأثير في أجهزة الدولة.

المؤكد أن الغنوشي يقوم بدعم الذراع الإخواني في ليبيا بإملاءات أردوغان، الذي يرى فيه القوة الإخوانية الوحيدة القادرة على إنجاح طموحه بالمنطقة، ومع ذلك، فهو مستمر إلى اليوم في القيام بدور تنسيقي مع إخوان ليبيا لدعم ميليشيات طرابلس من جهة، وتوظيف موقعه السياسي والمؤسساتي، من جهة أخرى، لجعل تونس جسر عبور آمن إلى ليبيا.

وهذا ما يتأكد بمحاولة التفافه على صلاحيات الرئيس قيس سعيد وإقحام نفسه في ملفات السياسة الخارجية بحجة سعيه إلى جلب الاستثمار، والحصول على قروض بنسب منخفضة، وفي الوقت نفسه يشرف في الخفاء على خطة انتقاء مئات المهندسين والتقنيين وإرسالهم إلى ليبيا لدعم ميليشيات طرابلس.. إنه حقاً بارع كما هو شأن الإخوان في العيش بالتناقض من داخل التناقض نفسه.