يضع لنا أحد المفكرين العرب وصفة سحرية للطمأنينة البشرية، كتلك التي تقول لك تعلم الإنكليزية في عشرة أيام، هكذا هو الأمر بكل سهولة.
يعتقد الأستاذ سعيد ناشيد في كتابه «الطمأنينة الفلسفية» أن الصراع بين الإسلام والإلحاد انتج - أو ينبغي أن ينتج - أطروحة ثالثة أكثر هدوءاً وأقل حدة وهي ذات أبعاد متعددة، ترى أن المستقبل لن يكون للدين بمعناه التقليدي القديم، ولن يكون للإلحاد بمعناه الجديد، بل خط ثالث يمكن تسميته بالروحانيات الإنسانية، وهي روحانيات بلا آلة تتناغم مع المنحى العالمي للحضارة المعاصرة، وسيكون فيها الشيخ الأكبر ابن عربي حاضراً، ومولانا جلال الدين الرومي والدالاي لاما والقس مارتن لوثر كينغ، وينتشر التصوف والفلسفة وقيم المحبة والحب والعشق الإلهي!
وحسب وجهة نظر الكاتب فإن التجربة الدينية قد فشلت، لأنه تم اختبارها في حدودها القصوى فأدت إلى العنف والإرهاب، وازدياد حالات الاكتئاب بين المتدينين والمتدينات.
ولأني أعتبر سعيد ناشيد مفكراً علمانياً أخذ علم العلمانية كابراً عن كابر، فأسعى إلى مناقشته هنا عبر تطبيق القاعدة التي رددها في كتابه أكثر من مرة وهي:
- إذا أردنا أن نختبر فكرة معينة، فيكفي أن نذهب بها إلى حدودها القصوى. إن المذابح التي تمت في الثورة الفرنسية وفي عهد الإرهاب تحديداً، كانت اختباراً أقصى لفكرة العلمانية والسلطة البشرية دون مرجعية، ومآسي الستالينية التي حاولت التعجيل بانهيار الأديان، كانت اختباراً لفكرة ماركس القصوى، فجاءت الهزات الارتدادية بنحو عكسي أفاد الكنسية الأرثوذوكسية، والأتاتوركية في محاولاتها إلغاء الدين بدل إصلاحه في تركيا، كانت اختباراً للفكرة العلمانية في أقصى حدودها، فعاد الدين بقوة إلى تركيا، كذلك الحاجة إلى الطموح والإبداع والتفوق، وفق فلسفة نيتشه، ووفق اختبار الفكرة إلى حدودها القصوى أدى إلى ظهور النازية في أوروبا وحرب عالمية ثانية.
كنت سأقدر كتابك جداً لو أنك بدأت بما انتهيت به، وهو أن الصراع العلماني الإسلامي لم يأخذنا إلى أي مساحات جديدة، ولكنك بدلاً من ذلك قدمت أطروحة ثالثة علمانية في صميمها، تطلب من الناس تحت عنوان «الطمأنية الفلسفية» أن ينتقلوا من كتب القرآن والسنة والتفسير والموسوعات الفقهية إلى الموسوعات العلمية والفلسفية... وينتقلوا من محمد وعيسى وموسى إلى كانط وهيغل وسيمون فايل!
وتردد في كتابك كله بأن المتدينين والمتدينات هم الأكثر اكتئاباً بين الناس، دون أن تذكر دراسة واحدة على ذلك، وتضرب بعرض حائط المبكى كل المجلات العلمية العالمية الصادرة عن كليات العلوم الاجتماعية والمليئة بدراسات وأبحاث، عن علاقة التدين بالسعادة والراحة النفسية والطمأنينة والتحصيل الدراسي والتفوق... فهذا يمكن وصفه بعبارة فيها خصام ولكن بلا عداء، قائلاً لك إن عباراتك خرجت دون فحص أو نقد يا أستاذ.
ما زالت العلمانية التي ظهرت حديثاً في خريطة الوجود البشري تتعامل مع الطابع الديني الموسوم في فطرة الناس، والذي لم يبدأ مع حضارات غارقة في القدم فقط مثل الفرعونية والبابلية، ولم ينته عند دعوة الرئيس الأميركي شعبه للصلاة من أجل أن يحمي الله أميركا من «كورونا»، بل استمر وتطور وتكيف... ما زالت تعامله وكأنها وصية عليه ومن حقها أن تملي على الناس كيف ينبغي أن تختار حاجاتها الروحية.
لم تكتفِ العلمانية بذلك... ففي الوقت الذي تطالب فيه بنقد الخطاب الديني والمراجعات الفكرية وتعديل الخطاب، نجدها لا تطبق معاييرها على ذاتها وكأنها وصلت للحقيقة، العلمانية التي تحارب كل من احتكر الحقيقة أصبح لها حقيقة تدافع عنها وهي الحرب على الطرق المتنوعة للحياة في السياق الاجتماعي، والتنوع فقط لديها في السلوك الاجتماعي الذي يشبهها!
العلمانية التي كانت تنادي بألا يصفق المجتمع بيد واحدة، أصبحت تقطع كل يد تحاول أن تصفق مع اليد الأخرى.
ماذا إذاً! يجب ألا نعقد الأمور! دعونا نقول الأشياء على حقيقتها.
لا مشكلة لديّ شخصياً في كل ما سبق، ففي النهاية كل سلوك اجتماعي أو فكري يمثل صاحبه، ولكن أن يكون الإيقاع السائد هو رفع مطرقة الساحرات على رقاب كل من يحاول إيجاد بديل أو خلق مساحة للحوار، واتهامه بأنه من «المشعوذين» الرجعيين أصحاب الكهف والحوت وجبال القاف... هنا يصبح الإيقاع سباقاً نحو القاع.
وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر.