في زمن غير هذا الزمن، وبلد غير هذا البلد، كان يمكن لرزمة المنصات الإلكترونية التي أطلقتها الحكومة اللبنانية مؤخراً أن تكون دليل عافية، بل ربما تكون مفيدة أيضاً. لكن شعار "لا ثقة" الذي رفعه مئات الآلاف من اللبنانيين لحظة التشكيل الحكومي، وبُعيد انطلاقة ثورة 17 تشرين المكتومة الآن، ينسحب على هذه الإنجازات الافتراضية، كلسان حال الجسم الإعلامي والأهلي الناشط، إضافة إلى عموم الجمهور. والكلام عن ثلاث منصات أساسية: المنصة الخاصة بالجهات المانحة التي أطلقها وزارة الداخلية، صفحة التحقق من الأخبار الكاذبة التي أطلقتها وزارة الإعلام، والتطبيق الذي أطلقته مديرية التوجيه التابعة لقيادة الجيش.

فلو كنا في كنف دولة تطبّق أدنى معايير الشفافية، في كل ما يدور في أروقتها من خطط تُدرس وخطوات تُنفّذ على الأرض.. لو كان قانون الوصول للمعلومات، المُقرّ منذ العام 2017، مطبّقاً، ولم يكن محلّ وعود -بل مطالبات!- بتطبيقه من قبل وزراء هذه الحكومة الذين يفترض أنهم المولجون بالتطبيق كسلطة تنفيذية والقادرون عليه دون سواهم، وعلى رأسهم وزيرة الإعلام.. لو كان الأداء الحكومي وأداء "العهد" عموماً قائماً على مصارحة اللبنانيين كمواطنين، واحترام عقولهم عبر مكاشفتهم بالأزمة المالية وبالأمن وما تملكه أو لا تملكه الدولة من أفكار حلول، ومن مدخراتهم ورواتبهم وإمكانية لجم أسعار العملات والسلع، بدلاً من خُطب رئاسية وحكومية لا تحيد عن الرطانة الإنشائية الفارغة وتتوجه إليهم كرعايا قاصرين لآباء حاكمين.. لو كانت الحكومة الراهنة معترفة بكامل حيثيات الأزمة، على ما يفترض بأي مريض أن يفعل كخطوة أولى في طريق العلاج، أو (وهذا حلم) لو كانت قد سعت إلى حد أدنى من محاسبة/إقصاء بعض المسؤولين عن هذه الأزمة، أو على الأقل شُكّلت من مستقلين فعليين عن القوى التي أفضت بالبلد إلى هذه الهاوية التي لا يبدو لها قعر... والأهم، لو كانت هذه الحكومة، كي لا نقول الدولة بحَرَسها القديم ومنتفعيها العريقين، قد راكمت شيئاً من المصداقية في نظر الناس والصحافيين والشارع... لكان واحدنا ليستبشر بتلك المنصات درءاً للشائعات والمُضلّلين الذي قد يزيدون الحال سوءاً فوق بؤس.

لكن.. ولما بات العمل الصحافي، والعمل العام، شبه مقبوض عليهما، بالأمن والترهيب والاستدعاءات، وحتى بأسئلة عناصر أمنية وعسكرية بثياب مدنية لإعلاميين يقومون بعملهم في الشارع لتغطية حدث أو استصراح المارّة.. والمعنيون الأوائل بمثل هذه المنصات، من ناشطين وإعلاميين، إضافة إلى سائر مروحة المتلقين، يسخرون منها في مواقع التواصل، بل ويتوجسون من تنزيل تطبيقاتها في هواتفهم الذكية وأجهزة الكومبيوتر خوفاً من فيروسات تجسس وكشف بيانات خاصة قد تستخدم ضدهم "جنائياً" وأمنياً وابتزازاً... والتسريبات والمؤتمرات الصحافية ما زالت تدوي بفضائح اجتماعات تفاوض الحكومة ومصرف لبنان مع صندوق النقد الدولي بـ"دفترَين،" على طريقة صغار الدكانجية المتلاعبين بالفواتير، وفي أرقى التشابيه، على طريقة العصابات في تصفية حساباتها في ما بينها.. والمنصة الالكترونية لصرّافي العملات واجهة شبحية لسعر الصرف الحقيقي في السوق السوداء... ولما كانت الدولة نفسها، ولفيفها الحزبي والمصرفي والسياسي هو الذي يطلق الشائعات كبالونات اختبار لقرارات وتعاميم مُعدّة للتطبيق على منهج: انشروا كذبة كبيرة ليمرّ تعسف أصغر منها، فيقول المستهدفون "الحمد لله على قضاء أهون من قضاء"... ولما أصبحت اليوميات اللبنانية ومصائر الناس رحلة مفزعة في لعبة أفعوانية احترق مكبس إطفائها، لدرجة أن البعض حين يصادف الآن خبراً عن الليرة أو الأسعار أو شح الأساسيات من خبز ومحروقات وخلافه، ويستهوله فيشك في أنه شائعة أو فبركة، يعود ليجده مدبّجاً ومصوّراً ومحرراً بأناقة في نشرات الأخبار المسائية.. فيما "المؤامرة" ضيفة دائمة في رحاب الخطاب السياسي.. وحتى أحزاب السلطة تخشى "جماهيرها" بل وجيوشها الإلكترونية التي جهدت في حشدها، وتُعدّ، هي أيضاً، منصات الكترونية لـ"تنسيق" وضبط ما يقولونه ويتعاركون بشأنه في وسائط التواصل الاجتماعي لاحتواء مفاعيل مقولة "خذوا أسرارهم من صغارهم"...

هكذا، وبأثر من كل ما سبق، تتخذ تلك المنصات صفة النماذج لما تشتهيه السلطة من تأميم للإعلام وتداول المعلومات والمعرفة، والذي يعرفه السوريون والمصريون كما يعرفون أكفّ أيديهم. فهذه هي الصورة التي ترى فيها شعبها وما كان يوماً حرية تعبير وصحافة جدّية ونقداً متاحاً في حدود معقولة أكسبت لبنان، ذات يوم وحتى أمس قريب، صفة "الواحة" في محيط متصحّر. وهذه، كما نعلم ونذوق كل لحظة، حكومة الصورة التي، وكما حصل يوم إعادة افتتاح المطار، يجب أن تكون "إيجابية" لا تتحدث مع مواطنين ولا تضيء على سوق سوداء للدولار في مرفق عام، وإلا اعتُدى على صحافيين وكُسرت كاميرات.