هناك اتفاق عريض على أن كتاب «صدمة المستقبل» لمؤلفه الأميركي ألفين طوفلر، كان أحد أهم الكتب التي توقعت المسارات المستقبلية للإنسانية في مجالات العلوم والطب والتعليم والاقتصاد والتقنية والطاقة. والكتاب الذي صدر في السبعينات الميلادية من القرن الماضي رأت مؤسسة «طوفلر وشركاه»، وهي المؤسسة المعنية بالحفاظ على إرث الراحل، أن تصدر كتاباً بعنوان «بعد الصدمة»: أهم علماء المستقبليات في العالم يتأملون في خمسين عاماً من صدمة المستقبل والنظرة التالية للخمسين سنة القادمة.

الكتاب ضخم جداً يتعدى الخمسمائة صفحة في حجمه ومن القطع الكبير أيضاً. ويقدم الكتاب مراجعات لما قدمه طوفلر من التقدم السريع والمذهل في قدرات التقنية الحديثة والتغييرات الاجتماعية الحاصلة بسببها وأثر ذلك الأمر المهم على الأصعدة كافة.

والكتاب نزهة عقلية ممتعة مع عقول مبدعة وبفكر غير تقليدي وخارج الصندوق تماماً. وليست طبعاً هذه المحاولة الأولى (ولن تكون الأخيرة) التي يحاول فيها الكثيرون استشراف آفاق المستقبل للتأثير على اتجاهاته، على العكس من الأمم الغارقة في أطلال الماضي وتشكك في أي اتجاه مستقبلي. فهناك مدرسة تؤمن بتقييم الحقب والأشخاص؛ فمثلاً هي ترى أن حقبة الكهرباء أطلقها توماس أديسون المخترع الأميركي المكتشف للكهرباء، وبعده وُلدت حقبة اقتصادية هائلة ولّدت شركات عملاقة مثل «جنرال إلكتريك»، وبعدها جاءت حقبة هنري فورد الذي طوّر خط الإنتاج في صناعة السيارات ومكّن الصناعة من الإنتاج الكمي الغزير جداً وتحولت السيارة إلى سلعة شعبية عامة. وحديثاً يشار إلى حقبة ستيف جوبز مؤسس شركة «أبل» الذي كان وقتها الهاتف الجوال «غبياً» بينما كانت القوة والذكاء لدى مقدمي الخدمة من شركات الهاتف، وذلك قبل أن يطلق جوبز الجهاز الخارق «آيفون» ليكون أول هاتف ذكي، ويقلب الطاولة على مقدمي الخدمات من شركات الهاتف، ويصبح التمكين في أيدي المستخدم وتنطلق ثورة الهاتف الجوال المستمرة إلى اليوم.

ثم جاءت حقبة جيف بيزوس مؤسس شركة «أمازون» الذي حطّم للأبد نمط التسوق وقضى بالتدريج على سوق التجزئة والجملة، وأسس لثورة التسوق الإلكتروني المستمرة إلى اليوم. ثم جاءت مرحلة مارك زوكربيرغ، مؤسس موقع «فيسبوك» للتواصل الاجتماعي أكثر المواقع تأثيراً وأهمها ليُحدث تطوراً مثيراً في الإعلام والنشر لا تزال عواصفه لم تهدأ بعد.

والآن يتفق الكثيرون على أننا دخلنا مرحلة آيلون ماسك، مؤسس شركة «تسلا» للسيارات الكهربائية التي تخطت قيمتها السوقية كل الشركات المصنِّعة للسيارات بما في ذلك شركات «تويوتا» اليابانية و«فولكسفاغن» الألمانية و«جنرال موتورز» الأميركية. والسبب في ذلك يعود إلى النجاح والإقبال المثير والمهم على موديلات السيارات وقبول المستهلك العالمي لها مع تطورها وتحسنها.

أيضاً كان الإعلان الأخير الصادر من شركة «تسلا» أنها خطت خطوات كبيرة ومهمة جداً في التحضير النهائي لإنتاج السيارة ذاتية القيادة (وهي بذلك قد تسبق كلاً من «أبل» و«غوغل» على ما يبدو) مما رفع أسهم الشركة في البورصة المالية لتكسر القيم السابقة للسهم بشكل غير مسبوق، والترجمة الوحيدة لهذا التطور هي زيادة رقعة الثقة بالشركة من السوق والمستثمر بماسك وشركته «تسلا».

ووسط أزمة تفشي جائحة (كوفيد - 19) أطلق ماسك عن طريق شركته الجديدة «سبيس إكس» المتخصصة في الفضاء التجاري صاروخاً تجارياً ناجحاً بالتعاون مع وكالة «ناسا» للفضاء بحضور الرئيس الأميركي دونالد ترمب شخصياً. يعتزم ماسك من خلال «سبيس إكس» تطوير وسيلة نقل البضائع حول العالم والعمل على إيجاد مستوطنات على كوكب المريخ لاعتقاده (وآخرين غيره يؤمنون بذات الشيء) أن كوكب الأرض ضاق على البشر، ولم تعد موارده المائية والغذائية تكفي، وعليه لا بد من التفكير في الخطة (ب)، بل إن أحد أهم رجال الأعمال العرب قال لي إن انتشار تطبيقات العمل عن بعد هو تمهيد للعمل من المريخ!

حقبة ماسك تشكل تهديداً لشركات الطاقة بلا استثناء، فهو لا يسعى فقط لنظام كهربائي للسيارات بل يعمل جاهداً على نفس الفكرة للشاحنات والطائرات والبواخر والمنازل. تخيلوا معي شكل حقبة ماسك لو اكتملت الصورة. إنه التغيير الكامل بكل صوره!

الشيء الثابت أن الحقب الاقتصادية الكبرى التي تُنسب للأشخاص لا تزال تأتي من الولايات المتحدة نتاج التعليم والبحث العلمي وأدوات التمويل والقانون الحامي للحريات والأفكار، وهو ما لن توفره الصين في رأيي أبداً!