هرباً من العتمة، من التعاسة العمومية، من التشنج العصبي الذي يسري في الشوارع وعلى شاشات التلفزيون، من النزق الموتور الذي يسيطر على الناس أينما كانوا، من الوجوه المستنفرة غضباً ممزوجاً بالقهر، من الاحساس بالاختناق كلما سمعنا خبراً سيئاً إضافياً فوق أرشيف الأخبار المريعة التي غرقنا فيها.. هرباً من ملاحقة سعر الدولار، ومن المصائب المتتالية، ومن غيظنا المتعاظم من أولئك الذي يتحكمون بمصيرنا..

هرباً من كل ما نكابده، كنا هناك في يوم العطلة كمن يستهلك آخر امتيازات زمن مضى، اجتمعنا كمرتادين للشاطئ، مجرد أزواج من رجال ونساء أتوا إلى هنا في نهاية الأسبوع. لا معرفة ببعضنا البعض. المكان هو الذي جمعنا، كما تواطؤنا على طلب الاسترخاء والاستجمام وتسجية الوقت، بعيداً عن توترنا وهمومنا وانشغالاتنا وأخبار البلد وأحواله. لبنانيون من بيروت والجنوب وكسروان. أرمن وشيعة وموارنة وسنّة وحتى زوجات أجنبيات. يمكن التخمين أيضاً أننا من ميول سياسية متنوعة ومن منابت وأهواء متباينة.

وعلى نحو خفي وتلقائي رحنا هكذا نتبادل الأحاديث بميلٍ واضح إلى الخفة والمرح والدعة. "جاطات" الفواكه وورق اللعب والكؤوس الباردة وطاولة الزهر والنراجيل، والنكات المتبادلة، والضحك العارم والتشارك في المآكل الخفيفة، والأحاديث الجانبية التي تُظهر حميمية مفاجئة بين شخصين بالكاد حفظا اسميّ بعضهما البعض..

كثير من الإلفة والود والتلاقي والاستئناس، وكثير من الانتباه – لا بد – إلى كوارث البلد ومخاوفنا وكوابيس النفايات والكهرباء والمازوت، ورعبنا على عملتنا ومداخيلنا، وكلام الهجرة ومستقبل الأبناء، واحتمالات الحرب وخياراتنا السياسية الصعبة، وأخبار المواطنين الذين ينتحرون يأساً، وهول ما وصلنا إليه، وأين أصبح لبنان، واستغرابنا لكل ما حدث في أقل من سنة وضياع الثورة وفشل الحكومات وفداحة الفساد.

كنا هكذا مجمعين على شتم "الزعماء" بقدر ما كنا مجمعين أيضاً من دون أي نبرة عدائية إلى أن حزب الله تحول إلى "مشكلة" لا بد من اجتراح حل لها، ونحن تقريباً متفقون على حيرتنا في ابتكار هكذا حلّ، وعجزنا عن تصور مخرج لائق من هذا المأزق الذي يكاد يهلكنا.

بعيداً عن قلقنا ومخاوفنا ووقائعنا اليومية المزرية، بدا ذاك الأحد كأنه رحلة خارج لبنان. بدا المشهد في ذاك المكان المشجر والنظيف عند الشاطئ، وبجوار حوض السباحة في أحد صيفي رائق، بشراً يحتفون بنمط حياة يمكن وصفه بـ"المتوسطي"، كما قد نشاهده أو نتخيله أو نتذكره كسمة لبنانية غالباً ما كنا نزهو بها ونصرّ عليها. مع ذلك، انتبهنا أن ما يخيفنا راهناً هو باختصار أن نخسر نمط العيش هذا، أن نفقد طريقتنا في التمتع بأوقاتنا، وفي تدبير اجتماعنا على الرحابة والحرية الشخصية وقبول هذا التنوع بل وطلبه. خوفنا العميق ليس فقط من هذا الفقر الزاحف والشحّ الخانق الذي يحرمنا آخر حيلنا في صنع الرفاه، بل من الكآبة والقنوط وسوء المصير الذي يلوح انهياراً اجتماعياً أسوأ من الانهيار الاقتصادي.

بمعنى آخر، وفي لحظة احتفاليتنا التلقائية هذه، وفق ثقافة العيش المميزة التي "توحّدنا" كلبنانيين، كان خوفنا المشترك أن ما يحدث راهنا قد يودي بلبنانيتنا هذه. وربما للمرة الأولى، منذ ثمانينات القرن الماضي، نشعر بتهديد جدي بفقدان لبنان حقاً، لا كجغرافيا أو دولة، بل كـ"تجربة" وهوية وفضاء.

كانت هواجسنا هذه متأتية من إدراك بديهي أن نظامنا السياسي معطوب، وأن نظامنا الاقتصادي مفسود وفاشل، لكن أيضاً أن الاستعصاء في التغيير مرده "المشكلة" التي صارها حزب الله.

في منتصف الثمانينات كان الحزب بكامل عزمه "الثوري"، تنظيماً أقلوياً متشدداً، منغلقاً وشبه سري. ولم يعر أي اعتبار للتباين الشاسع بين أيديولوجيته (الجمهورية الإسلامية في لبنان) والواقع اللبناني وفسيفسائه السياسية والاجتماعية والدينية. بل لم يكترث حتى إلى الفوارق بين الشيعة اللبنانيين وموروثاتهم السياسية والاجتماعية والفقهية وتأثراتهم بمحيطهم وبالجماعات الأخرى، عشرة وتواصلاً، وبين العقيدة الخمينية أو الشيعية الإيرانية. حاول فرض طقوسه وسلوكه الأصولي وتزمته الديني والاجتماعي وحتى فقهه الخميني وفتاويه، وأحياناً كثيرة بعنف مشهود.

كان الصدام الدموي بين حزب الله وحركة أمل في "حرب الأخوة"، اجتماعياً وثقافياً في جانب منه. وسرعان ما أدرك الحزب أن طموحه في التوسع والانتشار وكسب الأنصار والمريدين بين الشيعة أنفسهم، يستلزم منه تنازلاً ما أو مقايضة مغرية.

من هذا الإدراك، قدم حزب الله للطائفة ذاك الهامش (ولنسمه "الخصوصية" الاجتماعية اللبنانية)، أي لم يعد مصراً مثلاً على فرض التشادور على كل فتيات ونساء الشيعة، ومنح "حرية اجتماعية" وفق الحشمة التقليدية. منح الاعتراف بواقع التعدد الحزبي وقبول "الثنائية" مع حركة أمل. تفهّم مثلاً الخصوصية العشائرية للبقاع الشمالي، بل وحتى "الشروط السياحية" لمدينة صور مثلاً. أوقف أيضاً المطاردة الشرسة لليساريين والبعثيين والقوميين.. إلخ.

كل ذلك، كان مقابل فقط "الولاء السياسي"، أي منح الحزب امتياز قيادة الطائفة واحتكار المقاومة التي أرادها محترفة ومنضبطة وفعالة تحت سيطرته وقراره.

هذه المقايضة كانت مربحة جداً للحزب وللطائفة.

نقول هذا التاريخ، لربما طمعاً بأن يفكر حزب الله مجدداً في تقديم تنازل لا للخارج بل للبنانيين وحسب، وأن يقدم على مقايضة جريئة وتاريخية تضمن بقاء هذا الـ"لبنان"، وتحفظ له شرف "الحلّ".. لا لعنة "المشكلة".

نقول هذا بلا تفاؤل. للأسف.