يدور جدل كبير في المملكة المتحدة اليوم حول السماح بعودة الدواعش البريطانيين ومحاكمتهم داخل البلاد. أو استمرار منعهم وإبقائهم في معتقلاتهم بسوريا والعراق وتركيا إلى أجل غير مسمى. ما أحيا هذا السجال هو موافقة القضاء البريطاني لعروس داعش بالعودة من أجل الاعتراض على سحب الجنسية منها. ولكن ما زاده حدة هو تحذيرات رئيس الاستخبارات السابق من أن دواعش المملكة يمثلون خطرا أكبر على البلاد طالما بقوا في الخارج وأسقطت عنهم الجنسية.

ما يحذر منه المسؤول الأمني هو تحول سلوك الدواعش من “الجهاد” إلى الانتقام. بمعنى أن يفروا من مراكز الاعتقال في الشرق الأوسط، ويعودوا إلى ساحات القتال بدافع الانتقام من دولهم التي جردوا من جنسيتها. حينها سيستهدفون مصالح هذه الدول ومسؤوليها ورعاياها في المناطق التي ينشطون فيها. وربما يعودون إلى المملكة المتحدة بطريقة غير شرعية لينفذوا عمليات انتقامية. وفي الحالتين يقع الخطر على البريطانيين، ويكون الضرر أكبر مما تتوقع السلطات.

لندن حرمت العشرات من الدواعش البريطانيين من جنسياتهم. ومع ازدياد حالات الفرار من المعتقلات التي تشرف عليها قوات سوريا الديمقراطية في مناطق الجزيرة السورية، تصبح تحذيرات مدير الاستخبارات السابق واقعية إلى حد بعيد. مع الأخذ بعين الاعتبار أن الوضع الأمني الهش في سوريا والعراق لا يوفر حماية لرعايا بريطانيا ومصالحها هناك. كما لا يمكن التعويل على الأتراك في منع الدواعش الأوروبيين عموما من التسلل إلى دول الاتحاد الأوروبي والعودة إلى أوطانهم.

الدواعش الأوروبيون بالنسبة للحكومة التركية ورقة ضغط على دول القارة العجوز. ولا تبدو بريطانيا استثناء في هذه المعادلة حتى الآن. كما أن أنقرة تحسن استغلال الدواعش وتوظيفهم في ميادين القتال فوق الأراضي السورية والليبية. ومن يستعين بالإرهابيين في حروبه الخارجية، لن يصعب عليه تسهيل وصولهم إلى أبعد من حدود الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وثائق سفر مزورة وحفنة من الدولارات تكفي لدفع أي داعشي نحو تنفيذ عمل انتقامي أو “جهادي” يحلم به.

ثمة دافع آخر لانتقام الدواعش البريطانيين من بلدهم إذا ما أتيحت لهم الفرصة. أولادهم الذين ولدوا في ظل “دولة الخلافة” ويكبرون في معتقلات باردة ومظلمة ومكتظة دون مستقبل. لا ذنب لهؤلاء إلا ما اقترف ذووهم من جرائم متعددة. وقد بدأت تسمع في بريطانيا من يقول إن تجاهل مثل هذه الحقيقة لن يفيد على المدى الطويل، إلا بتراكم الحقد والرغبة بالثأر ممن رفضوا مساعدة الأطفال. الحجة تبدو منطقية ولكن هل من سبيل لمساعدة الأبناء دون الأهل؟

معضلة التعامل مع الدواعش العائدين هي ذاتها في جميع الدول الأوروبية، وتتلخص بكلمة واحدة هي القوانين. فالتشريعات في هذه الدول وضعت لتحمي حقوق الإنسان أكثر من أمن الدولة. ولأن الحكومة وأجهزة الاستخبارات تدركان أن فرص إطلاق سراح الدواعش العائدين عبر القضاء تساوي فرص سجنهم. فهم يفضلون بقاءهم خارج الحدود، بدلا من عودتهم إلى شوارع المملكة المتحدة بمعتقداتهم وقناعاتهم الإرهابية التي لن تتغير، ولن يتوقفوا عن قتل الأبرياء بحجتها.

لن يأمن البريطانيون جانب الدواعش العائدين. ولن يوافقوا على عودتهم ليواجهوا محاكمات تزج بهم في السجون عدة سنوات ثم يطلق سراحهم ليستأنفوا إرهابهم. لهم تجربة سيئة مع مثل هذه الحالات. في هذا العام وحده عاشت العاصمة حادثين نفذهما إرهابيان حصلا على إطلاق سراح مبكر. وإن كانت هذه التجربة سوف تتكرر مع ربع أو خمس الدواعش العائدين فقط، فهذا كفيل بأن يقلب البلاد رأسا على عقب، ويحيلها بنظر سكانها إلى مملكة من الخوف.

السبيل الوحيد لمواجهة كل المخاوف المتعلقة بالدواعش البريطانيين وعائلاتهم هو بتعديل القوانين البريطانية. وصياغتها بما يضمن محاكمات عادلة للإرهابيين بمعايير مختلفة عن تشريعات الجرائم العادية. فلا يجب أن تكون حقوق الإنسان في قوانين محاكمة الإرهابيين هي المعيار الأساسي، وإنما أمن الدولة والمواطنين. هذا سيتيح للقضاء سجن الإرهابيين مدى الحياة، بالإضافة إلى سحب جنسياتهم، ومنعهم من السفر، وقبل كل هذا مراقبتهم طوال الليل والنهار.

المشكلة أن تجريد القوانين في المملكة المتحدة من حقوق الإنسان يسجل انتصارا للدواعش على قيم الحضارة الإنسانية. هم يريدون للبشرية أن تعود إلى عصور الظلام حيث لا يسمع إلا صوت الموت، ولا يرى سوى السواد. ولأن البريطانيين لا يريدون منح الإرهابيين هذا النصر، يبحثون عن التوازن بين القانون والحقوق. بين الأمن والعدل. وبين الحرية والانتهازية. ليس فقط في فحوى التشريعات، وإنما في عمل الأمن والقضاء والرقابة على التعليم والتدين.

ربما يحمل قانون الإرهاب الجديد الذي تعكف الحكومة على إعداده حاليا، بعض الطمأنينة التي يحتاجها البريطانيون ليتصالحوا مع فكرة عودة دواعشهم ومحاكمتهم على أرض الوطن. نقول بعض الطمأنينة وليس كلها، لأن الثقافة التي أنتجت هؤلاء الإرهابيين الذين التحقوا قبل أعوام بدولة الخلافة، لا تزال موجودة. وفرسانها الذين ينشرون سمومهم ليل نهار، يترقبون عودة الدواعش ليبدأوا بالدفاع عنهم وتوكيل المحامين لإطلاق سراحهم وإعادتهم للإرهاب ثانية.

ليس فقط مكامن الضعف الإنساني في القوانين إن جاز التعبير، هي ما يجعل درء خطر الدواعش البريطانيين بعد إعادتهم أمرا صعبا. هناك أيضا أولئك الذين يدافعون عن الإرهاب ويبحثون عن ثغرات قانونية وفكرية واجتماعية لتبرئة الإرهابيين وتبرير جرائمهم. وعندما يفعلون هذا يتساوون مع الذين يقتلون أو ينشرون ثقافة التطرف أو يمولونها. فما أقبح بالإنسان باطنا عليلا وظاهرا جميلا.