الأمر الراجح أمامنا، ومن خلال ما يجري حولنا في المنطقة، أن عقل جماعة «الإخوان» في حاجة إلى دراسة نفسية تستقصي تكويناته وخلاياه، قبل أن يكون في حاجة إلى دراسة سياسية، تتقصى خطواته وسلوكياته فوق الأرض على طول الطريق!

والطريق المقصود هنا هو المسافة الزمنية الممتدة من عام 1928، عندما نشأت الجماعة على يد مؤسسها حسن البنا في مدينة الإسماعيلية على قناة السويس، إلى أن جاءها القرن الحادي والعشرون فوصلت خلاله إلى الحكم في عواصم عربية، وكادت تصل إليه في عواصم أخرى!

ولم تكن القضية في أنها وصلت إلى الحكم أو كادت تصل، ولكن القضية كانت في أنها لم تصل إليه في كل مرة، أو حتى كانت على خطوات منه، إلا وكانت تغادره سريعاً. كان ذلك يحدث مرة بقوة القانون كما حصل في العاصمة الأردنية مؤخراً، ومرة بقوة الشارع كما حدث في القاهرة قبل سبع سنوات، وفي المرة الثالثة تكاد تغادر بقوة الغضب بين أعضاء البرلمان، على نحو ما يجري في تونس العاصمة هذه الأيام!

في الحالة المصرية جربها المصريون بعد عقود من المكر بينها وبين الحكومات المتعاقبة، ثم طردها المصريون أنفسهم بعد تجربة حمدوا الله تعالى على أنها لم تمتد لأكثر من عام!

وفي حالة كهذه، فإن الحزب الذي يغادر السلطة بالطريقة التي غادرتها بها الجماعة في مصر، يجلس مع نفسه ليراجع ما فعل، فيرجع عما ارتكبه من أخطاء ويعتذر للناس، مع وعد منه بألا يكرر ما ارتكب، وبأن يظل يحترم إرادة الناخب في كل الأوقات!
وإرادة الناخب ليس من الضروري أن تتجسد في صندوق الاقتراع، ولكنها يمكن جداً أن تتجلى في الشارع، عندما لا يجد الناخب مفراً من الخروج في الميادين، مُعبراً عن رفض السلوك السياسي الذي يراه أمامه، ومتمسكاً بنقض العقد الاجتماعي الذي ينعقد بالضرورة بين كل سلطة في كل بلد، وبين رعاياها الذين هُم الطرف الثاني والأقوى في العقد!
هذا هو المبدأ المستقر الذي يتوافق عليه علماء السياسة في مسألة العقد الاجتماعي، بين كل سلطة في كل أرض، وبين رعاياها الذين ارتضوا جلوسها على مقاعد الحكم، وأذنوا لها بأن تمارس مقتضيات الحكم نيابة عنهم، وبما يحقق صالح كل واحد فيهم!

لم تدرك الجماعة الأم في القاهرة هذا كله، ولا حتى شاءت أن تدرك بعضاً منه على الأقل، ولو كانت قد أدركت الكل أو البعض مما كان عليها أن تدركه، ما كان الحال قد انقلب معها من خصومة مع الحكومات المتتالية، التي كانت قائمة قبل الوصول إلى السلطة عام 2012، إلى خصومة من نوع آخر مع الناس أنفسهم، في مرحلة ما بعد الخروج من مقاعد الحكم!

هي لم تنتبه إلى أن هذا قد وضعها أمام كل مواطن أعطاها صوته الانتخابي، في صورة الجماعة التي تسعى إلى الكرسي باعتباره هدفاً في حد ذاته، وليس باعتباره وسيلة تستطيع بها تحقيق مصالح الناخبين، وتستطيع بها... وهذا هو الأهم... قياس مدى قدرتها على النهوض بأعباء الحكم ومسؤولياته!

وهذه صورة تظل كاشفة في عين كل ناخب، لأنه يتبين له على الفور، أن ظنه حين اختارها للحكم من دون غيرها لم يكن في محله، وأن ثقته التي منحها في الصناديق كانت ثقة في غير موضعها، وأن الجماعة التي وثق هو بها لم تبادله ثقة بثقة!

ولا تعرف وأنت تتابع هذا بعضه على بعض، كيف يفوت كله على جماعة طرحت نفسها في بورصة الحكم، وقالت يوم فعلت ذلك إنها قادرة وجاهزة، ثم تكشفت الأمور على الأرض من بعدها عن أنها جماعة لم تكن جاهزة، ولا هي كانت قادرة يوم تقدمت وزعمت قدرتها على قيادة الأمة!

وإذا كان هذا هو حال الأصل في قاهرة المعز، فحال الفرع في عمّان لن يكون أفضل، والعرب تقول في أمثالها التي تختزن حكمة السنين ما معناه إن الظل لا يستقيم إذا كان العود أعوج!

والمعنى أن العود لو استقام في القاهرة، فإن الظل سوف يتبعه في الاستقامة على طول الخط وعرضه أيضاً في عاصمة الأردن، وفي كل عاصمة عربية أخرى يكون للأصل ظل فيها!

لم يحدث شيء من هذا، فنامت الجماعة في عمان مساء الأربعاء الموافق 15 يوليو (تموز)، وهي مطمئنة إلى أن الدنيا تسير كما تحب وترغب، ثم استيقظت في اليوم التالي فإذا محكمة التمييز في البلاد تقضي بأنها منحلّة قانوناً، وفاقدة لشرعيتها وشخصيتها الاعتبارية!

كان في إمكان جماعة الأردن ألا تنام مطمئنة وتقوم منحلة، وكان في مقدورها أن تحتفظ بشرعيتها وأن تستبقي شخصيتها الاعتبارية، وكان أمامها أن تبقى في الساحة وأن تستمر في داخل إطار المشهد، لو أنها وفّقت أوضاعها على حسب ما ينص قانون الجمعيات هناك ويقول، ولكنها أبت ألا تفعل، كأنها تكرر ما سبقتها إليه الجماعة الأم في طريق التحلل من الالتزام بالقانون، والتملص من التقيد بالدستور!

ولم تكن جماعة راشد الغنوشي في تونس، الشهيرة بحركة «النهضة الإسلامية»، بعيدة عن هذه الدائرة التي تضع الجماعة الأم مع جماعة الأردن في إطار واحد!

فلا شيء يشغل الغنوشي منذ فازت جماعته بالأكثرية في مقاعد البرلمان آخر السنة الماضية، سوى التصرف بسلوك صاحب الأغلبية مع باقي القوى السياسية التي تشاركه قاعة برلمان بلاده. وقد وصل الأمر في مواجهة الغطرسة السياسية التي ينتهجها الرجل، إلى حد أن حركة برلمانية نشطة قد راحت تتحرك بجدية في اتجاه سحب الثقة منه رئيساً للبرلمان!

وعندما يسعى الذين انتخبوه في مقعد الرئاسة إلى إزاحته من المقعد، فلا بد أن يراجع أداءه سريعاً، وأن يفهم أن خللاً كبيراً قد وقع، وأن الخلل ليس في الأحزاب التي تجمع توقيعات سحب الثقة، ولكنه في الحزب الذي استفزها ودفعها إلى هذه الخطوة الخطرة!

وبدلاً من مراجعة الأداء اتقاءً لبوادر عاصفة تتشكل في الأفق، فإن الغنوشي قد راح يطلب من الشرطة أن تتدخل لفض اعتصام في القاعة ضد سياساته، التي يراها المعتصمون خطراً على البلد، وعلى تماسكه، وعلى وحدته الوطنية!

وكانت المفارقة أن الشرطة لم تشأ أن تستجيب، ربما لأن تقديرها أن فض الاعتصام يتأتى بأن تعتدل حركة «النهضة» فيما تمارسه من سياسات مختلة، وليس بأن تقتحم الشرطة قاعة البرلمان فتقف في صف الحركة التي تمارس التطرف السياسي ضد أهل الاعتدال السياسي!

تطرف العقل الإخواني في ممارساته السياسية ملة واحدة، سواء كان الذي يمارس التطرف أصلاً في القاهرة، أو كان فرعاً في كل عاصمة عربية سواها!