خلال أشهر قليلة، من تشرين الأول 2019 إلى شهر آب 2020 انطلقت دعوتان يمكنهما أن تكونا رافدين داخليا وخارجيا لعملية إعادة تأسيس لبنان، نظريّاً على الأقل حتى الآن: ثورة 17 تشرين الشبابية النخبوية التي تحوّلت في ذروتها إلى حركة شعبية ضخمة بعدما ضخّ الانهيار المالي والاقتصادي في صفوفها شرائح عمالية وفئاتٍ واسعةً من الطبقة الوسطى. أما الدعوة الثانية فهي دعوة البطريرك الراعي مستنداً إلى كل الكنيسة المارونية ومعه أمس تجمّع من الكنائس الكاثوليكية وأحبارها إلى حياد لبنان في إعادة اعتبارٍ للفكرة الحيادية ضمن مفهوم ناضج يأخذ كل مسارات التجربة المئوية اللبنانية في ثناياها.

دعوتان لاعنفيّتان تعبّران عن تحولات عميقة في رؤية اللبنانيين لبلدهم. على المسرح، تبدو الدعوتان كُرَتَيْ ثلج. الكرة الشبابية ضد فساد المنظومة السياسية الحاكمة بكاملها انطلقت أكبر وصغرت مع التدحرج، وكرة الدعوة إلى الحياد التي بدأت من صوت واحد وأخذت الآن بالتحول إلى كرة كبيرة خصوصا إذا انضمت إلى الدفعِ بها أيادٍ دوليةٌ، طبعا مع كونها بطبيعتها تنسجم عميقا مع روحية السياسة الفاتيكانية.

اللاعنف ليس جوهر هاتين الدعوتَيْن الحركتَيْن، فقط، بل أيضاً أمانَتُهُما معاً. أعني بالأمانة أن اللاعنف جزء لا يتجزأ من شخصية كل دعوة.

لماذا؟

أنا من جيل كانت هانوي فييتنام رمزاً ساحراً من رموزه. كما يمكن أن يلاحظ القارئ فإنني أستخدم “تجارب” جيليّة، كمتراس عكسي في الكتابة السياسية. لمَ لا؟ الخبرات حين تتقاطع فيها مصائر الأفراد مع التجربة الجَماعية يمكنها أن تكون مفيدة جدا إذا استوفت شروط عدم ذوبانها الوحيد الجانب في السجال الدعائي. وبعض النخب اللبنانية، وهي قليلة اليوم من حسن الحظ كما أزعم، خفيفة جدا في استخدام الماضي، ولن أسمّيه التاريخ، في لعبة الصراع السياسي الراهن من حيث استسهال التحريض العنفي. الماضي العنفي حتى لو لم يحمل المشارك فيه مسدساً أو يستخدمه مرةً واحدة.

هانوي فييتنام التي بهرت مقاومتُها للغزو الأميركي عالماً بكامله يكاد ينقضي اليوم، بل انقضى، وهي الداخلة على النموذج الصيني الاقتصادي (ليبرالية اقتصادية زائد نظام حزب واحد للحكم) في علاقة وثيقة جدا مع الأميركيين وتحمل بعداً تجاذبيّاً مع الصين، هذه الهانوي – فييتنام كانت هانوي واحدة من الغزو الفرنسي إلى الغزو الأميركي، أما بيروت فقد لعبت دور هانوي، بالمعنى الكامل للكلمة مرتين، مرة في عهد المقاومة الفلسطينية ومرة ثانية متواصلة في عهد المقاومة الإيرانية. والغزو واحد في الحالتين: الحالة الإسرائيلية.

هذا كثير ! كثير جدا على لبنان. هانوي واحدة في هانوي وهانويان اثنتان في لبنان. ما هذه البيروت!

يبدو لي في زمن انكشاف هشاشة الدول التي لا تحمل مشروعاً حضاريا للتقدم، ، حتى لو كانت تحمل مشروعا صلبا للامتداد الجيوبوليتيكي لا أكثر من داخل قلعة أيديولوجية مهتزّة، أن لبنان يشارف مع تجديد دعوة الحياد، على دخول مرحلة لاعنفية عميقة التأثير وربما أمكنها أن تغيّر واقع مصادرتنا الحالي إذا بقيت بعيدة عن الأيدي المغامرة بالسلم الأهلي على الضفاف الداخلية المختلفة.

الخطر الرئيسي إذن على دعوة الحياد الحالية، على نضجها التاريخي، هذا النضج الذي يجعلها مختلفة عن دعوات الحياد السابقة، يأتي من مصدريْن:

الأول إسرائيل التي قد تسحق دعوة الحياد بما هي مشروع استعادة نهوض لبنان ضد مصادرة التخلف والعسكرتاريا اللاعقلانية، وهذه ممارسة للخبث العالي الخبث، عوّدَتْنا عليه إسرائيل من حيث الدمج بين إضعاف هانوي اللبنانية وبين ضرب التكوين الثقافي التعددي التعايشي للبنان .

الخطر الثاني على دعوة الحياد الحالية في لبنان، والتي أكرِّر، أنها تتميّز بنضجها، هو أصوات متوتّرة جدا من داخل لبنان عادت لتفهمها على أنها دعوة عنفية، من خلال إطلاق شعارات الحرب الأهلية السابقة التي واجهت كسرَ الصيغة الفظ، بفظاظة تبيّن أنها أودت بالحتف السياسي لمن راهنوا على علاقات بعيدة عن ما كانت تستلزمه علاقات عالم معقّد.

النداء التاريخي المنبعث من لا كلام دعوة الحياد الحالية، هو أن بيروت لا يمكنها أن تعيش في حالة هانوي دائمة بينما هانوي الفييتنامية صارت من حيث خيار التعبئة العسكرية السياسية من ماضٍ لن يعود.

مَلَلْنا واستنفدنا “تنظيم” الرحلات إلى الحرب داخل بيروت أو داخل أو خارج لبنان. نريد أن يقدّم لبنان أقوى ما عنده ثقافيا وحضاريا وسلميا في الصراع على صورة المنطقة كلها. وخصوصا في الصراع مع إسرائيل عبر المدرسة الجيّدة والجامعة الجيّدة والمستشفى الجيّد والصحيفة الجيّدة.

هنا من أمام فنادق غرب بيروت كانوا أو لا زالوا يركبون الباصات الثورية إلى صنعاء أو حلب أو الأنبار أو طهران. وفي زمن أسبق أخذوها إلى موسكو وهانوي وكابول…

إنها فرصة إعادة تأسيس لمشروع الحياد اللبناني الذي تَعاقَب وأحيانا تَشارَكَ جميعُ اللبنانيين في توجيه الطعنات إليه بنسب متفاوتة ولهذا فَدَمُه تتحمّله كل القبائل اللبنانية وتتحمّل معه المسؤولية، بنسب متفاوتة أيضا، عن تأجيل إمكان تحقيقه.

إذن أخطر ما يمكن أن يواجه الدعوة إلى الحياد هو ربطها بمسألة تهديد العيش المشترك . يكفي أنها تصدر عن البطريركية المارونية ليكون في ذلك ضمانة لعدم تعريض مضمونها السلمي للخطر. وينبغي أن نكون في صف البطريركية في هذا النضال السلمي الذي تقوده ومعها في حمايته من أصحاب الرؤوس الحامية هنا وهناك وهنالك….

في حراك 17 تشرين، ولو جهيضاً يقدّم لبنان الداخل أفضل وأفتى وأشرف ما عنده، وفي دعوة الحياد يقدّم لبنان الخارج الأنضجَ والأكثرَ عقلانيةً فيه.