استوعب جمال عبد الناصر في مشروعه أفضل ما كان مطروحاً من خيارات عصره؛ دمج التحرر الوطني بالالتزام القومي والتغيير الاجتماعي.

لا توجد ثورة مثالية مبرأة من الأخطاء، ولا ثورة خالدة عابرة للأزمان. كل حدث قابل للمراجعة، وكل سياسة قابلة للنقد. الأمر نفسه ينسحب على ثورة 23 يوليو التي لا يتوقف السؤال عنها من حقبة سياسية إلى أخرى.

حدة السجال الممتد شهادة ليوليو بقوة النفوذ على الرغم من انقضاء الأزمان والرجال. لا يصح لأحد أن يتحدث عن استنساخ تاريخ، أو استعادة تجربة، فيوليو ولدتها تحديات ما بعد الحرب العالمية الثانية، خاضت معاركها في موازين قوى دولية مختلفة، وتبنت نظاماً سياسياً تعبوياً كان الخيار المعتمد في ذلك الوقت داخل حركات التحرير الوطني في العالم بأسره.

أمام عالم جديد يتبقى من التاريخ دروسه الأساسية وأفكاره وقيمه التي صاغت مشروعها في التغيير.

أهم قيم مشروع يوليو: استقلال القرار الوطني، وانتماء مصر العربي، والانفتاح على العالم الثالث وقضاياه، والعدالة الاجتماعية ومناهضة التبعية في السياسة والاقتصاد.

تختلف المقاربات والسياسات باختلاف العصور. اكتسبت «يوليو» قوتها من تفاعلها مع حقائق عالمها، تحدّت وحاربت واجتهدت في بناء صيغة جديدة لوحدة دول العالم الثالث خارج الخيار، الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، فإما أن تكون داخل المعسكر الغربي الرأسمالي أو داخل المعسكر الشرقي الشيوعي. هكذا ولدت حركة عدم الانحياز.

استوعب جمال عبد الناصر في مشروعه، أفضل ما كان مطروحاً من خيارات عصره؛ دمج التحرر الوطني بالالتزام القومي العربي وبفكرة التغيير الاجتماعي والانحياز للطبقات الفقيرة.

كانت العدالة الاجتماعية صلب قاعدة شرعيته، حيث تعلقت باحتياجات البشر في الصحة والتعليم والخدمات الأساسية، وقبل ذلك الحق في العمل وفي عائد الناتج القومي: أن يكون إنساناً كريماً في وطنه آمناً على مستقبله. وكانت توجهاته العروبية أفق حركته في محيطه، وأي توجهات تكتسب قيمتها من مستويات التزامها.

هناك حاجة حقيقية على مستوى الفكر إلى دمج قيم التعددية والديمقراطية السياسية وحقوق الإنسان، لا تحتمل أي التواء في صلب المشروع الوحدوي العربي.

لا يمكن الحديث عن أي استنساخ ل«حركة عدم الانحياز»، أو الوحدة العربية على النحو الذي جرى في الخمسينات. الاستلهام غير الاستنساخ.

«يوليو» لا تمثل نظرية يقاس على نصوصها بقدر ما تلخص مشروعاً يقاس على قيمه. لسنوات طويلة كان السؤال الرئيسي: «ماذا تبقى من ثورة يوليو؟». السؤال بذاته يعني أن نظامها انتهى وتوجهاتها جرى الانقضاض عليها. مع بداية الانفتاح الاقتصادي عام 1974 تردد في السجال العام، سؤال العدالة الاجتماعية وطبيعة الانقلابات الجارية في البنية الطبقية للمجتمع، التي نظر إليها على نطاق واسع بأنها قطيعة عند الجذور مع شرعية «يوليو».

كانت انتفاضة الخبز في يناير 1977 ذروة الصدام الاجتماعي، فالسياسات تناقضت وتناحرت قبل أن تفترق الطرق إلى الأبد بتوقيع اتفاقيتي «كامب ديفيد» عام 1978.

في يناير عاد الكلام مجدداً عن «يوليو» من منظور جديد. هناك من حاول أن يصور يناير كأنها ثورة على ستين سنة التي تلت يوليو، بزعم لا يمكن إثباته أنها حقبة سياسية متصلة، شرعية واحدة ونظام واحد. كان ذلك استخفافاً بحقائق التاريخ وهزلًا في مقام الجد.

بحيثيات جديدة، أضيفت سنوات أخرى إلى تلك الدعاوى، من بينها تحميله مسؤولية ما أطلق عليه «حكم العسكر».

بحركة الزمن يمكن توقع إضافات جديدة تمنع التعرف إلى مناطق القوة والضعف وفرص التصحيح والإضافة، كأن يحمّل عبد الناصر مسؤولية «السبعين سنة»، ثم «الثمانين سنة».. وهكذا بلا نهاية دون إدراك لمغبة ذلك على سلامة النظر إلى المستقبل.

من طبائع الأمور أن تختلف التقديرات السياسية بشأن الأحداث الكبرى وأدوار الثورات وإرثها في حياة الشعوب، غير أنه لا يصح أن تمضي بعض التقديرات إلى حد إهدار الذاكرة الوطنية، وإطلاق أحكام تفتقر إلى أدنى احترام لوقائع التاريخ الثابتة، مستبدة بها ثارات تاريخ أو أفكار. بقوة التاريخ المشترك، ثورة «يوليو» إرث عام، لا يخص تياراً سياسياً دون آخر، ولا جيلًا دون آخر، ومن حق جميع الأطراف الوطنية أن تُبدي وجهة نظرها فيها، وأن تختلف معها في موضع أو آخر، لكن بشرط ألا تزيّف التاريخ وحقائقه الأساسية، أو أن تقول كلاماً عاماً مرسلًا لا يستند إلى دليل أو منطق.

ثورة يوليو انتهت تماماً في السبعينات، والرئيس السابق أنور السادات يعلن نهاية «الشرعية الثورية» والانتقال إلى «الشرعية الدستورية»، لم يكن السادات جاداً في الالتزام بالدستور وقواعده الملزمة، وكان اعتقاده أن الدستور يحكم من بعده، وأنه آخر الفراعين الذين لا يحكمهم دستور!

لا يصح أن نحاسب الثورات بغير قوانين حركتها، أو بأهداف غير التي تبنتها، أو خارج السياق الذي عملت فيه والعصر الذي احتضن تفاعلاتها.

يتبقى من «يوليو» قيمتها في التاريخ كواحدة من ثوراته الكبرى الأكثر نفوذاً وتأثيراً وإلهاماً، وقيم مشروعها التي أهدرت وأحلامها التي أجهضت.