أكتب إليكم من الطائف المأنوس؛ ونحن نعيش اليوم الثاني عشر من الأمطار اليومية الغزيرة والمتوسطة. أجواء ربيعية خلابة غير معهودة، في أيام قيضية شديدة الحرارة في معظم مناطق ومدن المملكة. هذه الحالة المطرية؛ عمّت الكثير من المناطق والمدن في غرب وجنوب المملكة، وحتى في الوسطى منها. الحمد لله الذي أنعم علينا بذلك.

أتحدث عن المطر؛ رغم أن هذه المفردة لم ترد في القرآن الكريم إلا بمعنى العذاب والشدة، في مقابل الغيث الذي هو الرحمة من رب العالمين. ولكن العرب ظلوا يستسهلون النطق بها منذ زمنهم القديم، ولا يرون بأسًا في هذا؛ خاصة وأن رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ كان يقول عند نزول المطر: (مطرنا بفضل الله)، في باب النهي عن القول بـ(مطرنا بنوء كذا وكذا). وقد جاء كم كبير من ذكر المطر في أشعار وأدبيات العرب على مر تاريخهم. إن في الغيث رحمة للعباد، وإحياءً للبلاد، وفيه مبعثًا للفرح والسرور والابتهاج. والاستبشار بالمطر بين الناس كل الناس شائع، وصدق عز وجل في قوله: (وجعلنا من الماء كل شيء حي). ومن شعر نزار قباني قوله: (الشّعر يأتي دائما مع المطر، ووجهك الجميل يأتي دائماً مع المطر، والحب لا يبدأ إلا عندما تبدأ موسيقى المطر). يقول أحمد شوقي:

ورائحة الشوق عند اللقاء

كرائحة الأرض بعد المطر

لأن حياة الثرى بعضُ ماءٍ

وتحيا القلوب ببعض البشر

وفي هذه الصورة الحياتية للمطر؛ يقول الشاعر البحتري:

إنَّ السّماءَ إذا لم تَبكِ مُقلتها

لم تضحَك الأرضُ عن شيء من الخضرِ

والزهرُ لا تنجلي أحداقه أبداً

إلا إذا مَرِضتْ من كثرَة المطرِ

وللمطر وجريان السيول فوائد عظيمة، قد يراها البعض ضارة بزرعه أو ضرعه أو سكنه أو حياته بالعموم، ولكن المطر؛ هو الصديق الذي لا يخون ولا يغدر، وهو الزائر الفضائي الذي يأتينا بين فترة وأخرى؛ ليهدي إلينا الكثير من عيوبنا في حياتنا، والتي نغفل عنها أو نتهاون فيها، حتى تتحول إلى مصدر إزعاج وقلق، أو كوارث وخطر يهدد حياتنا. فكم من أسطح كشف المطر أنها لا تذري من تحتها، وكم من معتد على مجرى سيل؛ كشفه السيل؛ لأن السيل يعرف دربه، وكم.. وكم.. إلى ما لا نهاية.

أتحدث عن الطائف المدينة في هذه الفترة المطيرة، حيث سالت شعابها، وفاضت وديانها، وغصت بالمياه مجاري الصرف التي جرى إنشاؤها في أحيائها، فظهرت عيوبنا التي غفلنا عنها أو أهملناها، حتى كشفها صديقنا المطر. الطائف مدينة جبلية، لم تعرف في حياتها الفيضانات، رغم أنه يشقها وادي وجّ الشهير، الذي أصبح سيله تحت الأرض، بعد أن شهد تنفيذ مشروع القناة المائية من مسائله الجنوبية الغربية، حتى مصبه في شمالي الطائف، وظهر فعّالًا في الآونة الأخيرة بشكل لا بأس به، لولا بعض الانسدادات التي هي من عيوب المتابعة غير اليقظة.

كان يمكن أن تكون الطائف مثالية الأداء في مثل هذه الأجواء؛ خاصة وقد نفذ فيها مشروع (ثلاثي) للمياه والمجاري وتصريف السيول؛ هو النسخة الأولى التي تنفذ دوليًا من مشروع مدينة سياتل في الغرب الأمريكي. المشروع كلف عدة مليارات، وشهد تنفيذ مشاريع رديفة أخرى فيما بعد. المشكلة التي كشف عنها صديقنا المطر لهذا العام، هي انسداد وعطل في بعض المواقع الصرفية وليست كلها، وتسبب هذا في إرباك وغرق وجرف سيارات في مدخل الطائف من الجنوب، وفي شهار والصناعية وغيرهما، وأخذ يتكرر كل يوم مع تكرار المطر. أنا أعرف أن مشاريع المياه والصرف الصحي والسيول؛ كانت منوطة في السابق بجهة غير البلدية، ثم انتقلت إلى شركة المياه الوطنية، ثم لا أدري عن الجهة المشرفة والمتابعة بعد هذا، هل هي الأمانة أم جهة أخرى. الذي أعرفه؛ أن ما شهدته مدينة جدة قبل عدة سنوات؛ كان يمكن أن يكون درسًا وعبرة للطائف ولغيرها من المدن، وأن الطائف مدينة سهلة في المتابعة والتصريف، وأن ما حدث لا يليق بالطائف وبسمعتها، ونأمل أن تكون هذه التجربة درسًا جديدًا، ومنطلقًا لتصحيح الأخطاء الإنشائية والعمرانية والإدارية. وألا ينطبق علينا قول اليابانيين في أمثالهم: (عندما يتوقف المطر؛ ننسى المظلة)..!

يبدو أن تجربتنا مع إدارة الشركات للمشاريع مثل المياه والصرف؛ تحتاج إلى مراجعة ومتابعة ومحاسبة، وإلا فأين الشركة من تنظيف مجاري السيول في عديد النقاط بالطائف..؟ وتجربة أخرى نمر بها مع شركة أخرى تدير المواقف حول السوق المركزي، فهي إضافة إلى تعسفها في سحب السيارات وفرض الرسوم والغرامات بالمئات؛ والتي لم تقر حتى اليوم من أي جهة مسؤولة حسب علمي؛ تعتمد على أجهزة (كاشير) آلية للخروج؛ تتوقف في معظم الحالات المطرية عن العمل، فيظل الناس مسجونين مع سياراتهم في المواقف ساعات وساعات، دون أن يلتفت إليهم أحد من الشركة. وهذه تجربة مررت بها بنفسي في مواقف برحة ابن عباس قبل أيام. وكأن الشركة كما قال أحد كبار السن الظرفاء المسجون معنا والمغتاظ وقتها: (تراهم يبونا نوقف ساعات أكثر لترتفع الفاتورة)..!

وحتى لا ترتفع فواتيرنا أكثر في آثار السيول وتعسف الشركات؛ ينبغي أن نستمع جيدًا إلى ما يقوله صديقنا المطر، وأن نتقبل هداياه على أنها نصائح من ناصح مخلص أمين.