لا أستطيع أن أخفي مشاعر الحزن العميق التي تملكتني وأنا أتابع سيل الردود المنتقدة للأستاذ عثمان العمير، وصحيفة «إيلاف» الإلكترونية التي يديرها، بسبب مقال نشر تحت عنوان «دعوة إلى إعادة كتابة القرآن الكريم من جديد» بقلم الكاتب العراقي جرجيس كوليزادة، حيث نَحَتْ أغلب الردود -إن لم يكن كلّها- باللائمة على العمير بسبب نشره هذا المقال.

وكالعادة لم تخلُ الردود والمداخلات من مخاشنات لفظية متفاوتة درجات الحدة على مقياس الغضب والهياج.. فكانت بين ناقم وشاتم ومحتج!

من وجهة نظر مغايرة، فقد رأيت في نشر هذا المقال فرصة، وأي فرصة، لسجال فكري وعلمي رصين، تنبري له الأقلام الرصينة، والعقول المستنيرة، وأهل الخبرة والدراية وترد على ما طرحه الكاتب «كوليزادة»، كما ينبغي أن يكون الرد، وتلزمه الحجة في سوح المعرفة، فإنّ هذا الدين قام على التفكير والتدبر والمعرفة والعلم ولم يقمْ على العصبية والهياج، ولو أنه قابل الكفار في مشرق الدعوة بمثل هذا الهياج الذي نراه كلما كتب كاتب وانتقد منتقد، لما أشرق نوره في الأرض كلها، وأصبح أتباعه في كل مشارق الأرض ومغاربها ولما تبع هذا الدين عاقل ومستبصر، طالما أنه يفقد الحجة، ويستنصر بالصراخ والشتيمة والتهجّم على كل منتقد..

لست هنا في معرض الرد على ما جاء في مقال «جرجيس»، كونه -بنظري- لم يأتِ بجديد في مسألة طرحت من قبل، وسوّدت في الرد عليها صفحات نيّرات قائمة على العلم والمعرفة والحجة الباهرة، ولم تنطوِ على شتيمة أو حالة تخوين، ولو أن «جرجيس» مد بصره قليلاً في محاضر هذه القضية في سالف المنشورات والمساجلات لكفانا وكفى نفسه مؤونة الطرح بهذه الطريقة التي تفتقر إلى العمق والرصانة، وحريّ به في مقبل المسطورات أن يستفهم إن لم يكن يعلم، ويحاور إن دخل في دائرة الشك، ويطرح الرؤية إن استوثق من إتمامه لشروط المسجالات العلمية ذات الوزن والثقل الفكري، الذي نتوسمه في من يتناول مثل هذه القضايا الكبيرة.. التي تهم الأمة الإسلامية أجمع.

أما الذين انبروا للرد عليه، محتشدين بحمولة من غضب، ظنوا وهماً أنهم ينصرون به دين الله، ويذودون به عن حياض القرآن الكريم واستصحبوا في حملتهم هذه حالة من «التخوين» لإيلاف ومؤسسها العمير بغمز ولمز لا يليق لمن أراد أن يناقش مثل هذه القضية وهو المتمكن من مفاصل الصحافة والخبير بدروبها فهم والله مصدر حزني الدائم والمستمر.

فكثير من قضايانا الكبيرة والخطيرة ونحن على حق فيها، أضاعها مثل هذا الهياج، والعصبية والغضب الأعمى، ورد الفعل الذي يزيد درب الجهل ظلمة، ولا يفتح كوّة ضوء في درب المعرفة، فلينظروا في مرآة فعلهم هذا إلى «جرجيس» الآن، هل أقنعتموه بحجة، هل رددتم عليهم ببينة، هل أخذتم بيده من دائرة «الشك» و«الضلال» إلى براح الوعي والاستنارة..؟؟

كلا؛ إنكم لم تقدموا له غير نموذج متكرر من صورة ظلت تلازم مجتمع المسلمين اليوم في عموم صورته، وأمام العالم وهو سيناريو متكرر، ظلت جماعات الإسلام السياسي تجد فيه ضالتها باستغلال روح القطيع النافر نحو الهياج، والمنفعل مع قضاياه بغير معرفة وروية وإدراك.. شهدنا مثل هذه الحالات عندما أصدر سلمان رشدي روايته (آيات شيطانية) العاطلة عن أي موهبة فنية، والمتكئة على نصف موهبة بائسة، فقامت قيامة «اللحى» و«العمائم» عليه، كفرته، وأهدرت دمه، ومنعت روايته وقام الناس معهم دون أن يقرأ أي واحد منهم سطراً واحداً من هذه الرواية البائسة، ولو أنهم تركوا أمر تلك الرواية البائسة لذوي الشأن لما وجدت سبيلاً للانتشار والذيوع، فقد تلقفها أهل الغرب لما أثارته من غضبة وهياج في الشرق، ثم انصرفوا عنها لما تبينوا هزالها وضعف إنشائها.. وتكرر الحال مع الدنماركي صاحب الرسوم الخالية من مضامين الجمال، والغافلة عن أي موهبة، ناهيك عن بُعد الأفكار، فنصبنا له مشانق في الخيال، وأحرقنا صوره، وذررنا الرماد في عيوننا فقط.. وقاطعنا السلع الدنماركية.. ثم هدأ الهياج وعدنا للدنمارك وسلعها.. ولم نكسب غير الوهم بالانتصار للإسلام ولسيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم..

أستطيع أن أمضي في استعادة كثير من المواقف المثيلة والشبيهة، ولن أجد غير رد الفعل الغبي هذا ومعه أجدد رجائي أن نستبصر ونضع الأمور موضعها الذي يحسن أن توضع فيه، وننظر إلى مثل هذه المقالات التي يكتبها «جرجيس» وأضرابه على أنها نفحات رائعة ومواسم مهمة نجدد معها المعرفة والبحث وقواعد السجال المنطقي، ونتخذها منبراً للتعريف بالقرآن الكريم، رسماً وقراءة ومعنًى خالداً.

ونبين للعالم ما هو الإسلام وما هي الرسالة الخالدة التي أتي بها محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام لتكون الخاتمة.

وهي مهمة معلقة بأعناق العلماء والمفكّرين وذوي الحِجى والعقل، أما الدهماء والسوقة، فلا أقل من أن يقتعدوا مقاعد الإنصات والتعلّم، ولا يشوّشوا علينا بهذا الزعيق، فهو إلى ضرر الإسلام وقضاياه أقرب من نفعه والانتصار لها.