كثير من تفاصيل التاريخ العثماني، وفي شقه العربي تحديداً لا تزال غير معرفة، وذلك بسبب (تشييع) مقولة: «إن الخلافة العثمانية كانت آخر حصن قوي للإسلام»، وأن العرب كانوا فيها متحدين ويعيشون في عزة.

وقد رُوج لهذه المقولة بتجميل حروب السلاطين العثمانيين ضد أوروبا وصراعهم مع الدولة الصفوية، ولم يُضفِ إلى ذلك أي تدليل على أي مظهر داخلي من مظاهر القوة والاستقرار والتقدم في الإمبراطورية العثمانية، وخصوصاً في أقاليمها العربية، ثم ظهر تيار العثمانية الجديدة بخطابية تركية زاعقة لا تحمل معها أي مضمون حضاري جديد للعرب تحديداً.

قصة دخول المطبعة للدولة العثمانية واحدة من أهم القصص، التي تدلل أن الإمبراطورية العثمانية هي استمرار لممالك القرون الوسطى، التي تفكر بعقلية حماية السلطة من وعي الشعوب، والتي تعلم أن العالم يعيش نمط حياة مختلفاً، ولكنها تبقى تحيط رعاياها بسياج من الجهل والفقر، باعتبارهما أهم أركان استقرارها.

يعد اختراع المطبعة وآلة البخار أهم اختراعين طرقا بالبشرية باب النهضة والتحديث، واختُرعت المطبعة في ألمانيا عام 1440 تقريباً، وأحدثت نقلة هائلة في نشر المعرفة وتداول الكتب وزيادة عددها.

وقد جرت محاولات عديدة لإدخال المطبعة للدولة العثمانية، إلا أن السلطات العثمانية حاربتها وأصدرت فتوى بتحريم استخدام المطابع عام 1588، غير أنها استثنت من ذلك رعاياها غير المسلمين من اليهود والمسيحيين في الأستانا وخارجها، شريطة ألّا يستخدموا الحرف العربي إلا لطباعة كتبهم الدينية، وهذا أسهم في دخول المطابع إلى حلب ولبنان عن طريق الكنائس التي طبعت الإنجيل بالسريانية وترجماتها العربية، الأمر الذي أدى فيما بعد إلى تشجيع تعليم الكتابة في الكنائس من أجل طباعة الكتب المقدسة، ويُسر نشر المطابع حين سمحت بها الدولة العثمانية.

انتهت بعض المحاولات العثمانية لتشريع استخدام المطبعة بفشل ذريع تسبب في إعدام مرتكبيها، إلى أن وافقت السلطات العثمانية عام 1727، على عمل المطابع، فصدر فرمان سلطاني بذلك وفتوى تجيز استخدامها، وتطلب ذلك شروطاً تنظيمية منها تشكيل لجنة للتدقيق على ما يُنشر ومنع طباعة القرآن الكريم.

أخرت الدولة العثمانية رعاياها 300 عام عن استخدام المطبعة، خوفاً من العلم والكتب وتداول المعرفة على نطاق واسع خارج سيطرتها، أسهم ذلك في استمرار الجهل والأمية بسلطة دينية من الأستانه نفسها.

لكن في ذلك الوقت، كانت باقي إمبراطوريات أوروبا تتنافس على الطباعة والتأليف والاختراع، وكانت أمة «اقرأ» تغرق في جهل كبير وممنوعة بفتوى عثمانية من الطباعة والقراءة.