بدأ العام وأسعار النفط أعلى قليلا من 60 دولارا لينتهي عند 45 في 13 أغسطس، بعد واحدة من أعنف التذبذبات على مدى عقود مضت، وأحداث دراماتيكية كانت المملكة في وسط الحدث في شهر مارس ممثلة حسن الطالع بوزير محنك، أحداث اختلطت فيها الأساسيات، نقص سريع غير معهود في الطلب في فترة قصيرة مع الفنيات، قوة تأثير الحالة النفسية كما تعبر عنها المشتقات المالية، وأخيرا البعد الجيواقتصادي لسلعة بهذه الأهمية كما عبر عنها اهتمام القادة في العالم. جاءت هذه الأحداث على أثر انخفاض معتبر في الأسعار بداية من 2015. كذلك من الأساسيات البعيدة ظاهرة النفط الصخري وتقلص الاستثمارات الرأسمالية لكثير من المنتجين من الشركات الدولية والحكومية والضغط البيئي والإعلامي حول الوقود الأحفوري، وأخيرا اقتصادات الطاقة المتجددة. أغلب الدول النفطية نامية وتعودت على الاعتماد على دخل النفط، وهذه أصبحت عاملا آخر في السياسة النفطية من ناحية مالية واقتصادية، خاصة أن تكاليف إدارة القطاع العام أصبحت مرتفعة والسلوك العام والخاص تكيف مع الدخل السهل. التأثير في الإنتاجية أهم عامل لم يعط حقه من القياس الاقتصادي.
تداخل العوامل المذكورة يجعل أي توقعات حول الأسعار مستحيلة، لكن ما يهمنا هو دور النفط كمصدر رئيس للطاقة في المدى المنظور، ومستوى من الأسعار الحقيقية يواكب التضخم، ومرونة في القرار المالي، وحيوية في القرار الاقتصادي. الواقع يحتم التكيف مع أسعار النفط، لكن الإدارة الحصيفة تستدعي التفكير الاستباقي، كي لا نجد أنفسنا على الهامش. من تناقضات العصر النفطي أن حتى الإصلاحات الاقتصادية التقليدية لا تكفي، لأن موضوع إدارة الموارد والإنتاجية يتطلب نوعا من الهندسة المجتمعية غير المألوفة في المجتمع العربي. أخذت المملكة خطوات مهمة نحو المستقبل، فمثلا لم يتوقع أحد ضراوة الهجمة على الفساد، حيث إنها خطوة ضرورية لما لها من تأثير معنوي ومالي. تقليل الفساد وتجفيف منابعه عمل جبار، لكن علاقته بالإنتاجية غير مباشرة وأحيانا بعيدة. فقد يكون الإنسان نظيفا لكنه غير منتج، بل ربما يجد غير المنتج أن التكيف يتطلب عدم الإقدام على أي شيء، وقد يكون للحذر دور سلبي على أخذ المخاطرة، خاصة في المراحل الأولى للتكيف مع الوضع الجديد. معرفة دواعي التصرفات مفتاح رئيس لتفكيك لغز الإنتاجية. موضوعيا وعمليا القفز بالإنتاجية يحتاج إلى درجة من الهندسة المجتمعية.
الهندسة المجتمعية مصطلح يأخذ أبعادا كثيرة من التغيير القسري في التركيبة السكانية، إلى الحسم بطريقة تكاملية تدفع للإنتاجية في إدارة الموارد البشرية. أقصد الهندسة بمفهوم تعليمي عمالي ضيق حتى يكون مقبولا لدى كثير على المستوى النظري على الأقل. طريق الإنتاجية يمر من بوابة الحوافز، إذ يقول دوجلاس نورث الفائز بنوبل في الاقتصاد، إن الحياة الاقتصادية تدور حول منظومة الحوافز المجتمعية - It is all about incentives. الحافز الرئيس اليوم للتقدم يدور حول الحصول على شهادة جامعية عليا من جامعة غربية دون تأصيل أو أحيانا توثيق عميق، وما أصعب التوثيق حين تكون منظومة الحوافز غير متوافقة مع الإنتاجية. لا بد من حل لغز الإنتاجية على مرحلتين: الأولى من خلال إعادة ترتيب الهياكل التعليمية بين الجامعي والفني/المهني في العدد والأعداد والمكافآت والدخل، فمثلا لو كان 70 في المائة من القبول في الكليات العسكرية من خريجي التعليم الفني لأصبح أهم بكثير مجتمعيا، لكن لا بد من تقليل طلاب الجامعات ورفع مستوى التعليم الفني ومكافآته، لكن لن يكون هناك تكامل دون تقليل الوافدين لحماية المواطن. أحد الأمثلة على النقص في إدارة الحوافز، يتم في تأسيس كليات طب وطب أسنان خاصة لمن لا يستطيع اجتياز متطلبات القبول في الجامعات الحكومية، العذر المعلن أنه ليست لدينا أعداد كافية من الأطباء، بينما العذر الحقيقي التهرب من تحدي الكفاءة الذي يؤسس للقاعدة الإنتاجية، لذلك ما يبدو أحيانا خطوات طيبة في الجوهر تظهر أعمالا تعوق الإنتاجية والتقدم. ركن أساس من الهندسة المجتمعية تقليل الهجرة الاقتصادية ورفع المنافسة بين المواطنين. المنافسة بين المواطن والوافد تكرس انقساما في الإنتاجية وضعفا عاما في الجسم الاقتصادي. المرحلة الثانية نبدأ بتحديات مشابهة لتحديات الإنتاجية في الدول المتقدمة مرحلة أكثر تعقيدا فنيا.
ليس هناك بديل عن الرحلة نحو الإنتاجية ولن تكون رحلة سهلة، لأنها ستتضمن احتكاكات وتنازلا في جودة بعض الخدمات مؤقتا، وإعادة ترتيب في النخب والمداخيل، ولذلك هي نوع من الهندسة المجتمعية، عمل ربما أصعب من محاربة الفساد. قياس الإنتاجية قبل هذه الخطوة مضلل. لا أجد خطوة اقتصادية أهم من هذه، خاصة بعد تجاوز مرحلة محاربة الفساد بكل عزيمة واقتدار.