أحيانًا أشك أنها ثقافة عربية بامتياز وثقافة عربية حصرية، ولعلنا نرشح «مخترعها» لجائزة نوبل للشجب إن وجدت وسيتحمس العرب له لأنه كفاهم عناء التفكير والتدبير والابتكار والإبداع، فاخترع لهم أسهل أسلوب ليعلنوا عن وجودهم في كل ملعب وكل مناسبة وكل حدث وكل واقعة بالشجب المريح الذي لا يكلف شيئًا، ويمكن استخدامه في أي مكان وأي وضع تواجد فيه «الشاجب» لا المشجوب.

فإن كنت جالسًا أو واقفًا أو حتى مستلقيًا ومسترخيًا باستطاعتك أن تشجب فقط لتسجل موقفًا حتى لو لم يُطلب منك تسجيله أو حتى لو لم يسألك أحد عن رأيك أو موقفك فأنت تمارس حكمة «أنا أشجب إذن أنا موجود»، ووجودك لا يتحقق صيتًا وسمعةً وذكرًا بين الأنام إلا بالشجب الذي يُحقق لك تابعين ومتابعين، فأنت اخترت لهم واخترت معهم الطريقة والأسلوب الأسهل والميسَّر في كل حالاتهم والذي يسعفهم دون أن يجدهم فكريًا أو ثقافيًا أو حتى دون أن يضطروا للتفكير، فللشحب عبارات وكلمات ومفردات وخطابات محفوظة في الوجدان العام ولم تسقط من الذاكرة؛ لأنها الوحيدة المستعملة في كل الأوقات وكل الأيام وحتى في كل الدقائق.

ومع الزمن تحولت بفعل انعدام تضاريس العقل وتسطح الفكر إلى «تحلطم» مستمر على مدار الساعة بلا انقطاع، حتى أصبحت البيوت تتحلطم على بعضها البعض، وحتى داخل الأسرة الصغيرة سيطر التحلطم على العلاقات اليومية والمعيشية، فالزوج يتحلطم على زوجته والزوجة تبادله «حلطمة بحلطمة»، وما يكادان يلتقيان في حديث أو موضوع مشترك من المواضيع اليومية حتى ينشب التحلطم مهددًا بنشوب معركة من معارك الشجب والاستنكار.

فالشجب حالة مثل أيٍ من الحالات الأخرى تتطور في ارتداداتها داخل العقل الشاجب، وتنحدر حتى وصلت الآن إلى ثقافة التحلطم وهي ثقافة أدنى بدرجات من ثقافة الشجب، فالتحلطم تحوّل من حالة ثقافية إلى حالة نفسية مستحكمة، فصاحبها لا يشعر بالراحة ما لم يتحلطم، فإذا لم يجد شيئًا يتحلطم عليه، فلا بأس من اختراعه.

فهي حالة تُرضي النفس الكسول صاحبها، وترضي الشخصية الاتكالية التي لا تريد أن تتعب في الإنتاج والإبداع ولا حتى بذل الجهد البدني دون الذهني، فتتحلطم لتخلص نفسها من المسؤولية، مسؤولية التراجع والقصور والعطالة والتعثر والانسداد، وتُلقي بالمسؤوليات كلها على من تتحلطم عليه، وبهذا تهرب أو بالأدق يشكل لها التحلطم مهربًا شخصيًا.

وفي المراوحة بين ثقافة الشجب وثقافة التحلطم تتوتر الشخصية وتتشنج وتعصّب باستمرار وفي كل شأن يعنيها أو لا يعنيها، يمسها أو لا يمسها، يضرها أو ينفعها، المهم أنها حالة تصاعدت ففقدت القدرة على الربط والاستنتاج الذي يحتاج هدوءًا وروية وتفكرًا وحسابات ومعادلات.

في الشرق أو في الغرب لم يصلنا خبر إلا وقابلناه بسيل حارق من الشجب وطوفان من التحلطم، وفي الأخير أو في النهاية ينعكس كل هذا الانفعال غير المبرر على الحالة النفسية المكتئبة التي نمر بها، فلا نملك أدنى قدرة للتفاؤل أو حتى الابتسام، فقد فقدنا هذه الخصلة أو القدرة لأننا نعيش ما بين سور التحلطم والاحتجاج على أي شيء وعلى كل شيء.

نحتاج لاستعادة بل لإنقاذ ما تبقى من أنفسنا من هذه الدائرة الجهنمية التي دخلناها بوعيٍ منا أو دون وعي لكننا دخلناها باختيارنا وقرارنا، لأن في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أنفسنا إنقاذ لأبنائنا وللجيل القادم الذي ينظر إلينا بوصفنا قُدوة ومثالاً من أن نضعه على طريق التحلطم فيفقد كل إمكاناته وتختفي إبداعاته وتتبدد طاقاته، وكان الله في عونه.