لو قدر للمفكر الأميركي الراحل فؤاد عجمي أن يشهد لحظات التحول هذه تجاه إسرائيل لكان جذلاً بهيجاً. لقد خاض طوال حياته حروباً وسجالات فكرية حتى شغب عليه بعض مجايليه مثل إدوارد سعيد، الذي وصفه بأقذع الأوصاف.

عجمي ذو تجربتين، انتقل من فوران النضال وغلبة الشعار في شبابه، لحد منازلته لنتنياهو في ندوة سياسية عام 1978، وصولاً إلى تجربة الهدوء والتعقل بعد الثمانينات. وقد توج عجمي صراعه بوجه ما يسميه بـ«استنزاف الشعارات» بكتاب شهير عنونه بـ«قصر أحلام العرب» عام 1998. عجمي ابن الجنوب اللبناني عايش مرارات كبرى ولم ير غير السلام والتفاوض وسيلة لإنهاء الصراع مع إسرائيل. وقد استضيف عجمي في تلفزيون «دبي» بعد عام 2003؛ إذ كانت أسئلة البرنامج شعبوية وتردد الشعارات الخربة ذاتها حول الأمركة والاحتلال والصهينة وسواها مما يدغدغ مشاعر العرب والمسلمين، لكن عجمي بقي مطّرداً مع أفكاره حتى آخر كتاباته كان يعتبر الحل الوحيد للعرب تجاوز الشعار والاحتكام للتفاوض والواقعية السياسية. وهذا ما يحدث الآن.

في عام 1994 بعد التوقيع على اتفاقية أوسلو، زار الكاتب والمسرحي الراحل علي سالم إسرائيل، والتقى العديد من الشخصيات، حيث تعرض حينها لهجوم ساحق من الشعبويين في الصحافة والإعلام والمجال الفني، وقد تألم لذلك كثيراً، إذ كيف يمكن لمثل هذه المجتمعات أن تنصاع للشعارات الفارغة المبتذلة بكل عبودية واستسلام؟!

مرت سنوات طويلة كان الحديث عن ضرورة التعاون وعقد اتفاقيات السلام مع إسرائيل يدور همساً في الندوات والمجالس، ما كان المثقفون يجرؤون على التصريح بنبرة عالية حول هذه الضرورة الاستراتيجية والواقعية. الحق أن المطلعين يرون أهمية هذا الالتقاء، والتي بدت عبر محطات إقليمية وتحولات سياسية قديمة ومنها ما حدث في حرب الخليج. اجتماع دول وشعوب عربية على تأييد غزو الكويت، وصمتهم عن تهديد النظام العراقي للسعودية ودول الخليج كان مريباً، كشف الكثير من المكنون، وفضح المستور، وبدت أسئلة مشروعة، لماذا يكرهنا هؤلاء، ومن ثم السؤال التالي الأهم الذي نحن بصدده، لماذا يكره هؤلاء إسرائيل؟!

لا يختلف أحد على إنكار الظلم من أي دولة كانت، ولكن الخراب الذي جرته أنظمة وأحزاب عربية وإسلامية على دول الخليج لم تقم به أو تنوي ما يقاربه ولا عُشره إسرائيل، بل إن صواريخ سكود التي ضربت الكويت والرياض هي ذاتها التي ضربت إسرائيل. وهذه الأسئلة بقدر حساسيتها لا بد من مواجهتها والتعامل معها بشجاعة كبيرة ومن دون وجل أو تهيب.

لا بد أن أقيم خطر إسرائيل من موقعي المصلحي البحت بوصفي خليجياً يعيش على هذه الأرض الغنية، وجل الخطل الذي حدث سببه تقييم موقفنا من إسرائيل انطلاقاً من مصالح الآخرين، والقيمة الأعلى للإنسان أن يفكر ويضع كل حقيقة بين قوسين ثم يحاججها ويختبرها وينازلها. وما تلقته الشعوب في المدارس من أن هذه القضية أو تلك هي الحقيقة المقدسة لم تزد المنطقة والشعوب إلا الخراب والوبال.

يمكن للمحللين السياسيين المتخصصين - ولستُ منهم - تناول قصص فشل قادة فلسطين في صناعة السلام، والفساد المريع المستشري لدى «حماس» وغيرها، وشركات الاتصالات المملوكة، والطائرات الخاصة لدى الأحفاد والأولاد، والأبراج الفارهة في عواصم أوروبية ومدن أميركية؛ هذه قصص وحقائق دامغة لا يبلغها الشك، وأتمنى من الحكومات الخليجية فتح ملفات فساد هؤلاء وعبثهم بثروات الشعب الفلسطيني المظلوم. لا يوجد قيادي فلسطيني من المثرثرين والزاعقين في الإعلام إلا وثروته من المليار فما فوق. هذا على الهامش لتنبيه العرب لخطر هذه القضية وسوء إدارتها، ليس على السياسة فقط، وإنما خطرها على الأخلاق.

ما عاد العالم الذي نعيشه هو عالم صدام حسين والقذافي وعلي صالح وياسر عرفات، ولا عالم خامنئي ونصر الله وأسامة بن لادن والبغدادي، ولذلك تتبع الدول تطورات العالم وتحولاته. الدول تبحث عن الحليف المتطور المفيد. هل يمكن لعاقل أن يعافي الشراكة مع دولة مثل إسرائيل من أعظم دول العالم في التقدم العلمي والتقني والتكنولوجي والذكاء الصناعي ويختار أن يتحالف مع رثاثة النظام الإيراني أو أذرعته بكل ما يحمله تاريخه وحاضره من شوه وتخلف وانحطاط وإرهاب؟!

إن الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي أهم تقدم سياسي بالمنطقة في العصر الحديث، وينم عن إدراك دقيق وتقييم عالٍ لما يمكن أن يحدث للمنطقة من دون بدء تشكيل محور اعتدال وسلام أكثر قوة وصلابة لوقف تمدد أشباه الدول وأذرعتها وصواريخها.

من يتابع الخطاب المدني في إسرائيل ويقارنه بزعيق حسن نصر الله يعرف جيداً من الذي يمثل ثقافة الحياة والعلوم والمعارف والتقدم ويحقق معاني الدولة والمؤسسات والتنمية، وبين معمم كل حديثه عن ثقافة الموت، وتفجير الموانئ، واختطاف الطائرات، وقتل الصحافيين، وتفخيخ مواكب الوزراء ورؤساء الحكومات والمسؤولين. هل نفضل نمط الدولة أم نبقى نجامل أحزاب الدم والعنف والكراهية والإرهاب؟!

ما قدمته الإمارات أشمل من كونه اتفاقية سلام، إنه درس عميق للعرب والمسلمين، أن أفيقوا فالكثير مما تعتنقونه، وتكرهونه، وتحاربونه، أو تدافعون عنه وتمالئونه وتجاملونه، إنما مصدره اقتناع خاطئ، وتصور متسرع، وفهم ناقص.

والدرس الإماراتي يضع المجتمعات أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما التكتل الحيوي مع الدول المفيدة بالمنطقة والمتطورة والمتحضرة أيضاً والنظيفة تالياً، أو البقاء في محيطٍ مضطرب تقوده العمائم الإيرانية المجنونة، والمال القطري الملعون، والأذرعة الإيرانية الإرهابية المفلوتة، والخيار العاقل بالطبع والمستقبل للتكتل الحي والمفيد والمثمر بين دول الاعتدال في المنطقة مع إسرائيل.

لا نريد ثقافة الصواريخ، ولا دول الشر، ولا أدبيات الصراخ والضجيج والمعارك الخاسرة الفاشلة، وإنما نبحث عن مصالح محضة، وتكتلات محورية وجوهرية، وخطط تنموية، ومشاريع اقتصادية، وتحالفات سياسية قوية؛ هذه هي نتيجة التجربة التاريخية الطويلة. إنها ثمرة حكمة السنين وعتها وامتثلت لها دولة الإمارات. لقد قدمت للعرب والمسلمين درساً عميقاً من دروس التاريخ.