مشكلة بأبعاد قانونية وأمنية وسياسية، أطرافها الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة والعراق وبلدان أخرى.
نجوم الدراما الدولية، أشرار وطيبون، وضحايا، ومستفيدون من هواة الصيد في الماء العكر، والساسة.
الأشرار اثنان ضمن مجموعة عرفت في أوساط الإرهاب العالمي بالـ«بيتلز»، أشهر فرق الغناء الإنجليزية في الستينات لجنسيتهم البريطانية. أليكساندا قوطي Alexanda Kotey، ورفيقه الشفيع الشيخ، التحقا بالتنظيم الإرهابي (داعش)، قبض عليهما المقاتلون الأكراد في يناير (كانون الثاني) 2018. ومعتقلان حتى اليوم في العراق.
الاعتقال وقتها أثار جدلاً بين فقهاء القانونين الجنائي والدولي؛ أين يحاكمان بتهم القتل والإرهاب والاختطاف التي شملت 27 شخصاً من الجنسين؟ هل في مواقع ارتكاب الجرائم، أي العراق وسوريا، أم في محاكم بلد جنسيتهما، وهو الوضع الطبيعي في القانون الدولي؟ أم في بلد آخر؟ وهناك أكثر من بلد توجه إليهما الاتهامات، ومن يملك صلاحية قرار تسليمهما للمحكمة؟
بريطانيا صاحبة قرار تسليم المتهمين للمثول أمام القضاء كالبلد الأم الذي يحملان جنسيته. الولايات المتحدة لديها أكبر مسوغات وحيثيات وأدلة لإدانتهما، فالعدد الأكبر من ضحاياهما كانوا مواطنين ومواطنات أميركيين. الذي يقوي من المطلب الأميركي، ليس فقط أخلاقياً، بل قانوني، لأن شهود العيان والأدلة أقوى بالنسبة لضحاياهما الأميركيين، والعامل الآخر الأكثر إثارة للاشمئزاز العالمي ودليل على وحشية «داعش» وتجرد «مقاتليه» من الإنسانية، كان تورطهما في اختطاف متطوعة الإغاثة الأميركية كايلا ميولر التي تعرضت للسبي والتعذيب والاعتداء الجنسي قبل مقتلها في 2015. ورغم إنكارهما فإن أشرطة مقابلات صوتية تسربت في الشهر الماضي اعترفا فيها بمسؤوليتهما عن اختطاف وقتل ميولر.
جهات متعددة تعارض مبدأ إرسال المتهمين، وهما الآن في سجن القوات الأميركية في العراق، إلى أميركا لمواجهة العدالة، لحاجة في نفس يعقوب. واليعاقبة كثيرون على جانبي الجدل.
الحكومة البريطانية تفضل غسل يديها من المشكلة وتصديرها إلى المحاكم الأميركية. فمجرد السماح بإحضارهما هنا في بريطانيا يوفر للدواعش المحليين دعاية مجانية، ويتظاهر المتطرفون الإسلامويون أمام السجن وأمام المحكمة وسط اغتباط الوسائل الإخبارية والصحافة اليسارية. كما أن أدلة تورطهما المباشر في اختطاف ومقتل متطوعي الإغاثة البريطانيين آلان هيننيغ، وديفيد هاينز، أضعف من الأدلة المادية والشهود في حالة ضحاياهما الأميركيين، مما قد يخرجهما براءة لعدم كفاية الأدلة؛ مثلما حدث مع «داعشية» سورية مزدوجة الجنسية الألمانية في الثلاثين من عمرها أفلتت من العقاب في محكمة ألمانية أول من أمس (الجمعة) لعدم كفاية الأدلة، رغم أدلة وشهود عن تجنيدها فتيات ألمانيات كعرائس لـ«مجاهدي داعش»، لقي بعضهن حتفهن أو وقعن في الأسر. وتمكن محاميها من إقناع المحكمة بأنها أنهت علاقتها بـ«داعش»، وأنها قضت وقتاً صعباً في سجن تركي، فاكتفى القضاء بحبسها عام وتسعة أشهر من المتوقع أن تنتهي إلى إيقاف التنفيذ ووضعها تحت المراقبة.
المعارضون لترحيل الداعشيين البريطانيين إلى أميركا يتزعمهم المحامون الليبراليون اليساريون، وبدورهم دوافعهم سياسية، أو مادية أو الاثنان معاً. فسياسياً يتزعم اليسار البريطاني اليسار العالمي في لوم الضحية قبل لوم الدواعش والإرهابيين، ويعتبر أن التاريخ البريطاني الإمبراطوري هو المسؤول عن تجنيد شباب مسلمين من البلاد وليس الآيديولوجيا الشريرة وفساد عقول المتطرفين. ويتقاضى محامو الدفاع هنا أتعاباً باهظة يتحملها دافع الضرائب تحت بند حق المتهم الذي لا يملك القدرة المادية في الدفاع عن نفسه، كما أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته بأدلة لا يرقى إليها الشك. الجهة الأخرى هم رفاق المتهمين من الإسلامويين أنفسهم وأقاربهم وهم يدافعون بحق يراد به باطل. فرغم أن هؤلاء الإسلامويين أنفسهم لا يعارضون إلغاء عقوبة الإعدام، بل يدعون إلى التوسع فيها وإعادة تطبيقها بعد أن ألغيت من 142 بلداً بما فيها بلدان الاتحاد الأوروبي، وهو أحد أهم عوائق التحاق تركيا بالمنظومة، فإنهم يستخدمون ذريعة الإعدام في الولايات المتحدة لعدم ترحيل الدواعش للمحاكمة هناك.
في شهر مارس (آذار) هذا العام تمكنت مها الغيزولي، أم المتهم الشفيع الشيخ، من إقناع أعلى محكمة في بريطانيا بإلغاء قرار وزير الداخلية السابق، ساجد جاويد، بالسماح للأمن البريطاني بتزويد السلطات الأميركية بأدلة إدانة ضد ابنها، بل وأمرت المحكمة أجهزة الأمن البريطانية باسترجاع الأدلة. القوانين البريطانية تحرم تزويد سلطات بلدان تنفذ عقوبة الإعدام بأدلة تستخدم ضد متهمين قد يتعرضون للعقوبة، بجانب طبعاً رفض اعتماد أي أدلة حصل عليها الأمن بطرق غير مشروعة أو تحت ضغط التعذيب النفسي أو الجسدي.
وبالطبع لا تلومن الحكومة البريطانية أحداً إلا نفسها، فقد استند محامي أم المتهم إلى مذكرة تسربت في صيف 2018 لم يمانع فيها وزير الداخلية، جاويد، بالتنازل عن شرط عدم تعرض المتهمين لعقوبة الإعدام في حالة ترحيلهما.
وكان جاويد تسرع بسحب جنسية «داعشية» أخرى، شميمة بيغوم، في مطلع العام الماضي تحت قانون الطوارئ والخيانة العظمى، واعترضت جماعات حقوق الإنسان وفقهاء القانون فليس لها جنسية أخرى. كما تمكن محامون يمثلونها من كسب حكم قضائي ضد الداخلية بضرورة إحضارها لتواجه المحكمة شخصياً هنا في بريطانيا، والحكومة استأنفت الحكم الذي سينظر لاحقاً، حيث تخشى أن ينتهي الأمر بتبرئة بيغوم لعدم كفاية الأدلة مثلما حدث مع عدد من المتطرفين.
وخلال اليومين الماضيين ارتفع الجدل حول أفضل الحلول لمحاكمة الداعشييْن المتهميْن بقتل أكثر من 27 إنساناً. كثيرون حذروا من تكرار خطأ جاويد بنزع جنسيتهما وتركهما يواجهان محكمة في العراق، حيث ستكون سريعة، بعكس المحاكمات التي تمتد لأسابيع وشهور هنا، وعلى أغلب الظن سينتهي الأمر بهما إلى حبل المشنقة.
وبجانب الإشكالية القانونية ومسألة حقوق الإنسان، فإن هناك جانباً سياسياً أخلاقياً، فالمحاكمة في العراق ستحرم أهالي الضحايا في البلدان الأخرى من رؤية مسار العدالة أمام أعينهم. فجزء من العلاج النفسي لصدمة فقدان ذويهم هو الوقت الذي تستغرقه إجراءات المحاكمة وأدلة الاتهام، وقراءة التعبيرات على وجهي المتهمين، وساعة النطق بالحكم وانزواء المتهم وراء القضبان ستُطوى فصول مهمة في القضية، مثلما ذكر المدعي العام الأميركي ويليام بار في خطاب رسمي أرسله إلى وزيرة الداخلية بيريتي باتيل يؤكد فيه أن الادعاء الأميركي لن يطالب بعقوبة الإعدام على الداعشييْن لإبطال حجة رفض ترحيلهما.
ورغم حرص باتيل على تجنب أخطاء سابقها، فالأمر خارج إرادة حكومتها غير القادرة على تجاوز العقبات القانونية والقضائية وضغوط الرأي العام.