ربما لأسباب كثيرة انفجرت في وجه المجتمع الكويتي عدد من الملفات، بعضها مصنّع داخلياً والآخر مفروض خارجياً، هم ثلاثة أساسية، يؤثر بعضها على البعض الآخر، ووصل الأمر إلى حد أن يتدخل نائب الأمير الشيخ نواف الأحمد ليخاطب الجمهور في الكويت وبصراحة حول تلك الملفات، جائحة كورونا، كما يرى البعض، هي الملف الأول ربما بما فرضته من عزلة مما كشف الملفات الأخرى؛ كون الناس في حيرة من جهة، كما العالم، وفراغ يشوبه التقصي والمتابعة على وسائل التواصل الاجتماعي، شره وخيره من جهة أخرى. الملف الثاني والأكثر بروزاً وإحراجاً كان ملفاً كبيراً تحت عنوان الفساد، وتحته عدد من العناوين الفرعية نابعة منه، فقد شُده أغلبية المجتمع بالكم الكبير لهذه الملفات وبالأسماء الكبيرة التي تورطت في شبكته؛ مما أثار لغطاً اختلط فيه الصحيح بالباطل، أما الملف الثالث فهو عوار بيّن في هيكل الإدارة سواء الرسمي أو في الشق الشعبي المنتخب.
هذه الثلاثية هي ما شغل المجتمع الكويتي، زادتها حرارة وسائل التواصل الاجتماعي والتي أصبحت في متناول الجميع، أي شخص لديه تليفون حديث يمكن أن يبدي رأياً في أي شيء عَلِم حوله الكثير أو القليل. في الملف الأول الصحي أبلت الكويت بلاءً حسناً؛ فقد تم تقريباً السيطرة على الوباء الذي وصلت نسبة الشفاء منه درجة معقولة، كما أن الوفيات لم تكن كبيرة نسبة لعدد الإصابات، لقد استجابت المؤسسات المختلفة استجابة جيدة، وكفلت الدولة جل طواقم العناية حتى من بلدان بعيدة، كما سهلت معيشة الناس نسبياً من خلال استخدام معقول للتقنية الحديثة.
الظاهرة الثانية، الفساد، هناك اقترابان متداولان لتفسيرها، الأول يرى أن انكشاف كل تلك الملفات على السطح يحسب إيجابياً للمجتمع، فلو لم يكن المجتمع واعياً ومتابعاً والأجهزة المختصة يقظة لما تكشفت تلك الملفات وبهذا الوضوح، فهي إذن ظاهرة صحية، والاقتراب الآخر يرى أن ظاهرة الفساد هي كاشفة وليست منشئة، فالخلل الأكبر هو في خفوت المحاسبة وضعف المراقبة وسوء اختيار العناصر في درجات الإدارة، التي ثبت أنها غير كفؤة، خاصة في مكان اتخاذ القرار الأكثر حساسية والمتعلق بأمن الناس وعيشهم، إلى درجة أن رئيس الوزراء الشيخ صباح الخالد صرَّح متعجباً في فترة سابقة: كيف يمكن تبرير الظاهرة مع كل هذه الأجهزة الرقابية، ومع ذلك لم تلاحظ تلك الأجهزة مظاهر الفساد مبكراً! كل الدراسات التنموية العالمية والإقليمية تؤكد أن ما يعطل التنمية في كل وجوهها تفشي الفساد في أجهزة الدولة، عدا ما يتركه من ظل كبير من الشكوك حول الإدارة العامة، فقد تحدثت عن تلك الملفات وسائل إعلام عالمية متعددة. من مظاهر ملفات الفساد في الكويت تورط «رجال الوسط»، إن صح التعبير، من جنسيات مختلفة غير كويتية، لكن كثيرين يرون أن هؤلاء الأشخاص (الأجانب) هم واجهة فقط لمتنفذين كبار في الإدارة يستخدمون هذه الواجهات لأغراضهم في الإثراء على حساب المجتمع، إلى حد قول نائب الأمير في خطابه «لا أحد فوق القانون»، إشارة إلى الرؤوس الكبيرة. ملف الفساد في الكويت متضخم إلى حد الهلع؛ فالتسريبات إن صحت حتى الآن تتحدث عن مئات الملايين من الدنانير التي تسربت في هذا الشق الواسع والأعمى، عدا أن العدالة بطيئة بسبب حجر «كورونا» من جهة، ومن جهة أخرى تراكم القضايا وتشعبها على الجهاز القضائي بشقيه الجالس والواقف، وهو الأمر الذي جعل من أصوات مختلفة على وسائل التواصل الاجتماعي تضج بالشكوى، يتبع هذا الملف الكبير آخر شائك تطرق إليه نائب الأمير في خطابه، وهو الإشارة إلى الاستخدام غير الرشيد لوسائل التواصل الاجتماعي، فمن جهة يشعر الناس بأن ما يفكرون فيه هو الصحيح، وبسبب ربما العزلة وعدم المعرفة يصدحون بآرائهم ويتحدثون بما يعتقدون عن وقائع في نظرهم صحيحة، وهي ليس بالضرورة كذلك، وآخرون يرون أن التقصير هو في عدم الشفافية من الإعلام الرسمي الذي ما زال تقليدياً وتنقصه الكفاءة في معالجة قضايا الرأي العام، فعلى الرغم من وجود قانون للجرائم الإلكترونية مشدد، يعتقد البعض أنه قاسٍ يقيد من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ويطالبون بتغييره، ومع ذلك يجازف البعض بالخوض في قضايا تأخذهم إلى المحاكم، وربما إلى السجن في بعض الحالات.
من أهم ما كشفته وسائل التواصل الاجتماعي من منظور فهم المجتمع قضيتان يبدو أنهما متناقضتان، فمن جهة وعي عالي السقف لدى قطاع الشباب واليافعين من الجيل الجديد، أو من منهم دون الأربعين من العمر، وهو القطاع الأعرض، وهو وعي يلفت النظر، أما الظاهرة الأخرى فهي تدني «المناعة المعرفية» لدى البعض إلى درجة ترويج إشاعات من دون تقصٍ حول مصدرها، بل وكشفت تلك الوسائل عن كمية من الجهل ليست قليلة، مع وجود صحافة حرة نسبياً ومنتديات عن بعد سهّلتها التقنية الحديثة، إلا أن رأياً عاماً قريباً إلى الاستنارة لم يتشكل بعد في المجتمع الكويتي. الملف الثالث عوار في ممارسات الإدارة الشعبية والرسمية. فقرب الانتخابات العامة، والتي من المفروض أن تنظم قبل أن ينتهي هذا العام؛ مما يجعل من بعض الأعضاء في البرلمان الحالي (الإدارة الشعبية) يلجأون إلى شيء من المزايدة أمام الحكومة القائمة، فرغم ما فرضته جائحة كورونا من تقييد في الحركة والتجمعات، ذهب بعض الأعضاء إلى استجوابات متتالية، إلى حد أن اختلط على الجمهور العام أسباب ودوافع تلك الاستجوابات؛ مما جعل خطاب نائب الأمير يلحظ «أن لا إصلاح في ظل انحراف الأدوات الدستورية»، فأصبح المجلس بدلاً من كونه مكاناً لحل الأزمات إلى مكان لتدوير الأزمات. ولم يخلُ الأمر من تسرع لدى بعض أعضاء الحكومة في التصريحات غير الشعبية، كتصريح وزير المالية المثير للجدل في الداخل والخارج قوله إن الحكومة «لن تستطيع دفع المرتبات بعد شهر أكتوبر (تشرين الأول)»، فأصبح الأمر موضوعاً للجدل الواسع، وسرت موجة قلق زادت المشهد تعقيداً، وكان من الطبيعي أن يقارن البعض بين ذلك التصريح وبين الهدر المشاهد في الموارد، والتفريط المباشر أو غير المباشر في ملايين الملايين من المال العام في ملفات الفساد. العوار الهيكلي في قوانين الانتخابات المتغيرة والمتلاحقة، والمرور بالتجربة والخطأ في تطبيق التجربة الانتخابية من وجهة نظر بعض المختصين سبب أصيل لهذه الممارسات التي تتصف بالمماحكة وتعطيل إنجاز المصالح العامة للناس، وهي على عكس ما يريده المجتمع من التجربة الديمقراطية، هذا العوار ليس ببعيد عن أعين السلطة العليا، فقد صدر أوائل هذا العام توجيه من الديوان الأميري بتشكيل لجنة من النشطاء للنظر في قوانين الانتخاب وتطبيق الدستور القائم، إلا أن الجائحة قد عطلت حتى الآن عمل معظم اللجان الصغرى المتفرعة من اللجنة. واضح من هذه الثلاثية أن إعادة النظر في عمل المؤسسات أصبحت أولوية من المخاطرة تجاهلها.
آخر الكلام:
يقول مثل كويتي «في الكويت اربط إصبعك، كُل من يوصف لك الدواء»!