يعتبر فشل الجولة الجديدة من المفاوضات المصرية ـ السودانية ـ الإثيوبية حول ملء السدّ وتشغيله، بدون تحديد موعد لاحق لاستئنافها، منعطفا آخر من المنعطفات الخطيرة التّي تهدّد استقرار هذا البلدان، التّي يعتبرها خبراء الجيوـ استرتيجي «السرّة الجامعة بين الشرق الأوسط وإفريقيا».

إنّ إبطال الإتّفاق الذّي حصل بين واشنطن والخرطوم بشأن تحديد إطار لضمان مصالح مشتركة بين الدّول الثلاث، حسب بلاغ الخارجية الأمريكية الذّي جاء تتويجا لزيارة مايك بومبيو للخرطوم خلال الأسبوع الفارط، يعني أنّ المسألة جدّ معقدة لها خلفيات جيوسياسية تتحكّم فيها حسابات خارجية متداخلة، وبدون أن نصدر أي أحكام قيمية فيمّا يحدث، ننطلق من تجميع بعض المعطيات التّي لها صلة بهذه الخلفيات، وأهمّها الحضور التركي في إثيوبيا الذّي جعل من المجال الاقتصادي والسياسي والثّقافي قاعدة صلبة لاحتوائها والامتداد في مفاصلها المادية والرّمزية.

ذكرت مجلة فوربس الأمريكية أنّ الحضور التركي بهذه الكثافة في إثيوبيا لا يخرج عن «طموحها الإيديولوجي والسياسي في المنطقة، وستناور بكل الطرّق لهزم خصومها المنافسين لها في إفريقيا.»

إنّ اجتهادها في التَرسُّخ ثقافيا وقيميا في المجتمع الإثيوبي، ينّم عن وعي منها بأن كسب معركة المجتمع بتنميطه واستلابه سيقوّيها لربح المنافسة أمام خصومها المفترضين، وما يثبت هذا الكلام أنّ تركيا استطاعت أن تكون ثاني مستثمر في إثيوبيا ب2.5 مليار دولار ودأبت على تفريخ أكثر من 160 شركة في أديس ابابا مكّنتها من خلق أكثر من 35 ألف منصب شغل، مع ما يشكّله هذا العدد من امتدادات أسرية وعائلية عميقة تقوم بدور التأثير والاستقطاب الاجتماعي، ولم يفتها تحصين مغامرة الاستثمار بالانكباب عل العمل الخيري عبر إنشاء منظّمة التعاون والتّنسيق التركية وخلق هياكل متنوّعة لها، بحيث استطاعت هذه المنظّمة اليوم أن تتوسّع أكثر في الأرياف والمناطق الأكثر هشاشة.

يبقى السؤال إذن، هل نستطيع أن نسلّم أمام هذا الاستثمار الكبير بأنّ تركيا بعيدة عن هذا الصّراع الثلاثي حول النيل؟، ألهذه الدّرجة هي غير عابئة بالاستراتيجية المائية لإسرائيل في المنطقة، وغير مدركة لقناعة الصين بأن استمرار مشروعها التأسيسي في إفريقيا عبر إثيوبيا قائم على شرط وجود أمن مائي أساسه النيل؟

طبعا من السذاجة أن نعتقد غير ذلك، ونسهى عن كون غريمها التّاريخي المتمثّل في مصر طرفا أساسيا في الصراع، ومن مصلحة مشروعها التاريخي إضعاف مصر بخلق أزمة مائية داخلية تكون سببا مباشرا في سقوطها باعتبار النيل تاريخيا خلفية أساسية لقوّتها وحضارتها.

إن إضعاف مصر في المنطقة رهان مركزي بالنسبة لتركيا، لذلك فهي تبذل كلّ جهودها لعرقلة كل اتفاق ثلاثي تخرج منه مصر رابحة، ولا نستبعد أن النقاط الخلافية التّي أفشلت المفاوضات كانت من صنيع تركية بامتياز.

ما ينبغي التنبيه إليه، إلى أنّ عجز الأطراف في إنجاح المفاوضات سيعرّض المنطقة إلى جيل جديد من الأخطار لا أحد يعرف حدودها.