بدأت حموة الاستعداد للانتخابات النيابية في الساحة الكويتية ومشاهدها المجتمعية المتنوعة، وستشهد تلك الساحة السياسية الساخنة مزيدا من تلك الحرارة المحاطة بأجواء الطقس ولعنة جائحة كورونا، ولكن حرارة الحرية عند الشعب الكويتي والرغبة العارمة في نزعة الثقافة الديمقراطية بكل تعرجاتها في الكويت، خلقت أجيالا من الشعب باتت شرايينها تتغذى من ذلك المناخ الديمقراطي حتى بحدوده الدنيا، والتي كانت سببا متميزا للحكومة الكويتية وشعبها عن سائر أنظمة ومجتمعات الخليج بل بعض الدول العربية، التي غيبت من دساتيرها ونظمها تلك الثقافة السياسية البارزة والضرورية لكل شعب وهو يصوغ ويشارك في تشريعاته وقراراته ومراقبته.

ومن يتابع الساحة لدينا هذه الأيام يلمس تصاعد ذلك الزخم الانتخابي بشكل متسارع من لحظته الأولى، ويلمس بكل وضوح ذلك الإيقاع السياسي الكويتي من خلال القاعدة المجتمعية الواسعة التي تطل من خلال وسائل السوشال ميديا وقنوات التلفاز والصحافة، ويتحسس المرء بكل سهولة، تارة بالهمس في تلك الأروقة والديوانيات وتجمعات المجتمع المدني المتنوعة، وفي أغلب الأوقات يسمع تلك الأصوات العالية المحتجة والمختلفة والمتنافسة والمتصارعة حول مسألة المشاركة أو المقاطعة في مجلس الأمة في دورته القادمة. وبقراءة عاجلة للساحة السياسية نلاحظ الانخراط الواسع من النساء والرجال وفي مقدمتهم الشريحة الواسعة من الشباب إلى جانب المهن المختلفة من شرائح المجتمع من فئات وطبقات متباينة والقوى والتيارات السياسية المختلفة وغيرهم في هذا الخيار التاريخي الجديد والمعقد، من حيث محيطه وظروفه الإقليمية والعالمية وحالته الطاحنة في أوضاعه الداخلية، وبهذا تساهم قاعدة المثلث الاجتماعي-السياسي الكويتي في المعركة الانتخابية مرورا بقمته من تلك النخب المتنوعة الأساسية والتي تشكل وعيه المتقدم والطليعي والمؤثرة في صياغة وتشكيل الوعي الواسع لشباب المجتمع الكويتي.

ودون شك تفرز حالة التجاذب الانتخابي بين تياري المقاطعة والمشاركة تيارا ثالثا من الأصوات الانتخابية وهو التيار المتذبذب في الخيار بين تلك الثنائية، وهي كتلة هلامية واسعة ومهمة من حيث ثقلها السكاني وتنوعها الاجتماعي والطبقي في اللعبة السياسية البرلمانية، وسنجد التيار الثالث أكثر عرضة للتأخير وعدم الوضوح والثبات حتى آخر لحظة من لحظات التصويت عند صناديق الاقتراع. وتحسم خيارات وأصوات التيار الثالث صراع تلك الثنائية ومدى تأثيرها في الشارع السياسي في مجرى الأيام القادمة الساخنة من حيوية وحراك المترشحين والمقاطعين في تناطحهم السياسي.

من يقرأ بتأن وعناية هذه الأيام طروحات الاتجاهين المتناقضين (المقاطعة- المشاركة) فإنه يجد مدى التشابه بين الطرفين للمسألة من حيث المقدمة، فالكل متفق على حالة تلك الملفات كملف الفساد، وضرورة تغيير النظام الانتخابي، وضرورة النظر في الدستور، والمشاركة في الحكم والثروة وقضايا ثانوية كثيرة تتعلق بأداء الدولة وسياساتها الأمنية والدولة العميقة والتعليم والخدمات، في حين نجد التيارين أكثر اختلافا في مناهج التحليل السياسي والاستنتاجات والثوابت حول القناعة العميقة لأهمية بقاء واستمرارية مجلس الأمة مهما كان دوره السلبي، فهو كحد أدنى تعبير عن حرية الشعب وصوته وحقه داخل تلك المؤسسة السياسية التشريعية المهمة من ثوابت وأركان الدستور، حتى إن لمس الشعب مدى المراوغة والتلاعب من السلطة التنفيذية بتلك المؤسسة الشعبية، في حين صوت المقاطعة كتيار معارض تبدو مواقفه العدمية هي التنصل من المواجهة داخل قبة ذلك المنبر معتمدا على نشاطه خارج المجلس وهو وجه واحد من العملية السياسية، إذ من الضروري أن يبقى البرلمان (مجلس الأمة) منبرا للوعي العام وضميرا وصوتا للتحريض والتعرية لكل الملفات ومن ضمنها ملف الفساد، حتى إن كانت تلك الأصوات المميزة بالنزاهة لا تستطيع تمرير مشاريع عديدة لصالح الشعب بسبب صراع أصوات الأقلية والأكثرية في المجلس، ولكنها تعلن من داخل تلك المؤسسة حقيقة الصراع والتلاعب والتزييف والمتاجرة وشراء الذمم.

ويكمن مأزق من ينادون بالمقاطعة (رغم أنهم لا يملكون رقما إحصائيا دقيقا لتلك الأصوات المقاطعة ونسبتها من المجموع الكلي من الناخبين) في أن غيابهم في دورة واحدة أو عدة دورات لن يكون إلا عبثا سياسيا وتسجيلا لموقف يرونه يجردهم من مسؤولية الضمير السياسي الذي رفض ويرفض المساهمة بمجلس أمة صوري، رغم أنهم يدركون أنه كان صوريا بتركيبته منذ الانطلاقة الأولى، وما حدث من تباين بين دورة وأخرى نيابية كان مجرد تباين نسبي في وجوه النواب ونوعيتهم ومواقفهم النزيهة أو المتواطئة مع السلطة التنفيذية.

تجاه هذه المعضلة بين نمط مجلس الأمة وجوهره في كل دوراته النيابية ونمط النظام السياسي الحاكم، في بنية مجتمعية قبلية وعشائرية نجد أن الكويت لم تجتث فيه منذ استقلالها عام 1961 تلك البنى المتشابكة، والتي باتت تلك التركيبة الاجتماعية جزءاً لا يتجزأ من اللعبة السياسية بكل مكوناتها ومن ضمنها الانتخابات النيابية، بما فيها لعبة المشاركة والمقاطعة، فتربة التيارين وعملهما وحراكهما تتغذى من ثدي تلك البنى التي ما زال وعي المجتمع المدني المتقدم غائبا ولا يميز مواطنه أهمية الولاء لمن، وكيف يصب صوته في اللحظة الحرجة من الخيار التاريخي بين الصعب والضروري.

لهذا يصبح خيار المشاركة أكثر أهمية وأولوية بكل ما فيه من هنات وخيارات، قياسا بخيار المقاطعة السلبي، دون أن ننسى أنه من الأهمية بمكان اختيار مرشحين أكفاء يمتازون بنظافة اليدين ونزاهة الضمير، فعلى الأقل بإمكانهم المواجهة بدلا من التخاذل والصمت والتواطؤ على مصالح الشعب، أما مسألة زج مقولة فضيلة المشاركة إزاء خطيئة المقاطعة أو العكس أيضا، فتلك مسألة نسبية كمقولة أن من يرى الشجرة لا يرى الغابة أو مقولة من يرون نصف الكأس الفارغ ولا يرون نصفها المليان، وبذلك يقفزون على الحقيقة من عدة أوجه فلا يرون منها إلا وجها واحدا، والغريب هو رؤية الوجه المشوه من حقيقتنا في الكويت.