- “الأغاني” للأصفهاني، كتاب أدبي وفنّي عظيم. لخلوده من الأسباب ما هو ظاهر وما هو مُضمَر. وأظن أنّ من المُضْمرات، أنه، ومن العنوان نفسه، يتمدّد في كل واحد فينا، بمن في ذلك من لم يقرأ الكتاب بعد!. لأن لكل واحدٍ منّا كتاب أغانيه الخاصّ المكتوب في وجدانه، ولأنّ لكل جيل صفحات جديدة مُضافة!.
- في كل ما سمعت وقرأت: ما مِن أحد قدر على تعريف “العروس” بأقل قدر من الكلمات وأكبر طاقة في المعنى أكثر من فيروز وهي تغني: “يا مشوارْ.. من دارْ لدَارْ”!.
قبل هذا “المشوار” هي بنت في بيت أهلها. بعد هذا “المشوار” هي ربّة بيتها.
التقط الرّحابنة اللحظة الخاطفة، اللحظة الوحيدة التي تكون فيها الفتاة “عروسًا” دون أن يُجاوِر هذا المعنى أي معنى آخر!.
- يوم وصف عبدالوهاب صوت أمّ كلثوم، قال: “الزّعامة”!. أضاف: “الصوت كالمظهر الشكلي للإنسان!. أحيانًا يدخل عليك شخص فتجد في قوامه وارتفاع هامته وسمات وجهه ما يأخذك ويجعلك تحترمه وتجلّه.. وصوت أم كلثوم يتمتّع بهذه الصّفات”!.
في المقابِل، يحكي لنا المقرّبون من أم كلثوم ممّن تعاملوا معها فنيًّا، كيف كان خوفها من الوقوف أمام الجمهور عظيمًا، رغم كل ما حقّقتْ من مجد له صفة الطغيان!. وكيف أنها تُصِرّ على إبقاء المقدّمات الطويلة، لكي تتخلّص من خوفها قبل البدء في الغناء!. وقد كان من بعض حِيَلِها في ذلك أنها كانت تختار وجهًا واحدًا من بين الحضور، وتتلبّس دور الغناء له وحده، آخذةً من قسماته ونظراته وتعابير وجهه ردّة فعل جمهور المسرح كلّه!.
مثل هذا الخوف هو الشجاعة الفنيّة كلّها!. ذلك لأنه ناتج من احترامها لفنّها ولجمهورها!.
وهو احترام حرص، قد يكون وقوفها على المسرح آخر مشاهِدِه، لكن يمكن تتبّعه في اختياراتها للنصوص ولعباقرة الملحّنين، وللمجهودات المُضنية في البروفات، بل وحتى في سيرتها الشخصيّة، وهي أمور تصلح دروسًا لكل فنّان.
أمّا ما أظنه يصلح درسًا، لكل من لديه حساب في شبكات التواصل، فهو حِيلَتها الأخيرة، التي ذكرناها قبل قليل، وبالذات حين يكثر عدد المتابعين والمُشاهَدَات: اكتب وفي ذهنك قارئ واحد فقط، مُتابِع واحد، مُتخيَّل أو واقعي!. تكون فيه صفات من تحب أن يقرأ لك، هكذا يمكنك أن تقول شيئًا مميّزًا، خاصًّا، له أَثَر!. هكذا تَضُوع ولا تضيع!.
-”آه.. لو لِعِبْت يا زَهْر”، واحدة من أشهر الأغاني الشعبية في السنوات الأخيرة، اللّحن فيه شجن راقص والصّوت فيه جَوَى قارِص!. ولهذا حقّقت الأغنية نجاحًا وانتشارًا كبيرًا.
لكنني حين أدُقّق وأُحقّق في الكلمات، معانيها ودلالاتها، أجدها مقزّزة لفرط ما بها من رغبة في الانتقام والتّشفّي!. والمصيبة أن كل هذا الحقد الدّفين والرغبة في الانتقام تأتي مغلّفة بالشهامة وعمل الخير!. غلاف وهمي، يخفي تحته مرضًا نفسيًّا مقزّزًا!.
يكفي من السخف أن الأغنية تؤكّد أن النجاح والكسب ليس إلا ضربة حظ ولعبة زَهْر، لا جهد ولا عمل ولا حتّى نيّة طيّبة: “آه.. لو لعبت يا زهر”!.
ويكفي من القرف أمرين، الأول: أن الأمنية لا تتوقف عند تحقيق بطل حكايتها للنجاح، والمُحدّد بالمال فقط!، بل تتجاوز هذا الأمر إلى تمنياتها بانقلاب حال الآخر من اليسر إلى العُسر!. لماذا؟! لكي، وهذا هو الأمر الثاني، يتمكّن البطل من مساعدته، وبذلك يراه الناس كريمًا و”طويل البال”:
“آه.. لو لعبت يا زهر واتبدّلت لـ.. احوال..
وركِبْت أول موجه في سكّة الأموال!..
لـ.. اروح لأوّل واحد احتجت له في سؤال..
كسَر بخاطري ساعتها ودوّقني ضيقة الحال..
لـ..اعمل معاه الصّح أنا..وأسنده لو مال!..
وأقف جنبه في المِحَن وأكون طويل البال!”.
- حقق مسلسل “الفتوّة” نجاحًا واسعًا، ومتابعة كبيرة. في ظّني: لم يكن السبب فنيًّا، كما أن عددًا كبيرًا من الذين ربطوا بين العمل وفتوّات نجيب محفوظ، لم يقرأوا نجيب محفوظ، على ما أظن، وآخر حدّهم كان في متابعة الأفلام المأخوذة عن ومن رواياته، والفوارق شاسعة!.
المهمّ: في أغنية “تتر” نهاية المسلسل، كلمات لا تدلّ إلا على الضعف، والاتّكاليّة، والسلبيّة في أسفل دَرَكاتها!. حيث “المغنّي” الذي يُمثّل، افتراضيًّا، صوت الناس المظلومين، يطلب من “الفتوّة” أن يذهب بمفرده، ويأتي بحقّ المظلوم، دون تأخير!، بينما المظلوم يظل جالسًا في مكانه لا يروح ولا يجيء ولا يقوم بأي مساعدة من أي نوع!،..:
“قابِلْ في وِشَّكْ ما تهيبشي..
روح هات لي حقّي وما تغيبشي”!.