خلال 5 عقود، قام البشر بأعمال أدت إلى اختفاء 70 في المائة من الحيوانات البرية. هذا ما أعلنه تقرير صادر عن «الصندوق العالمي للطبيعة» الأسبوع الماضي، جاء فيه أن تعداد الحيوانات والطيور والأسماك والبرمائيات انخفض بنسبة 68 في المائة منذ عام 1970. كما أن 90 في المائة من الأسماك الكبيرة في البحار – مثل سمك القرش والتونا – قد اندثرت خلال القرن الماضي. وهناك أسباب عدة لهذا التراجع الخطير، على رأسها كثرة الاستغلال والصيد غير المنتظم، بالإضافة إلى إزالة الغابات وسياسات تؤدي إلى التصحر. كلا العاملين يدفعهما التكاثر السكاني، وانعدام التخطيط السليم للتعامل مع متغيرات العصر الحديث، وتأثيرهما على البيئة والطبيعة.
هذه القضايا علينا الاهتمام بها، ليس فقط لمنع انقراض حيوانات ونباتات تشكل عنصراً أساسياً لتوازن الطبيعة وجمالها وعملها السليم؛ بل لأن حياتنا نحن كبشر تعتمد على الطبيعة ضمن نظام بيئي مترابط يؤثر كل عامل فيه على الآخر. وباتت مهددة بسبب الاختلال في النظام البيئي كله. وإذا كنا نريد أن نمنع تكرار حدوث كارثة مثل وباء «كوفيد- 19» في المستقبل، فعلينا أن نقف بجدية عند هذا الأمر. ففي تقرير آخر نشره «الصندوق العالمي للطبيعة»، في يونيو (حزيران) الماضي، قالت المنظمة الدولية إن «العوامل البيئية التي تؤدي إلى ظهور أمراض حيوانية المنشأ، تتضمن: الاتجار بالحياة الفطرية واستهلاكها بمعدلات مرتفعة، وتحويل تغيير استخدام الأراضي لأغراض أخرى ما يؤدي إلى إزالة الغابات، و«شدة» التصحر، وتوسيع نطاق الزراعة غير المستدامة». والتقرير الذي حمل عنوان «(كوفيد- 19): إجراءات عاجلة لحماية الإنسان والطبيعة»، يوضح أن «كافة الأدلة المتوفرة تشير إلى أن (كوفيد- 19) مرض حيواني المنشأ، ما يعني أنه انتقل من الأحياء الفطرية إلى الإنسان».
وقد أعلنت الصين في فبراير (شباط) الماضي حظراً على استهلاك الحيوانات البرية، كما من المتوقع إصدار قانون تتم مناقشته حالياً في بكين لحماية الحياة الفطرية. ولكن من المتوقع أن تبقى التجارة غير الشرعية على الحيوانات البرية مشكلة قائمة في دول عدة، تضاهيها مشكلة تبعات تدمير غابات الأمازون التي تعتبر من أهم البقع الجغرافية لاستدامة الحياة الطبيعية، وإبقاء التوازن بين الأحياء من البشر والطبيعة.
قد يقرأ القارئ العربي هذه الأسطر، ويعتقد أن الحياة الفطرية في الصين وغابات الأمازون في البرازيل بعيدة عنه، ولا يوجد لها تأثير على مجريات حياته ومستقبله. ولكن إذا تعلمنا شيئاً من وباء «كوفيد- 19» فهو أن التطورات البيئية لا تبقى «بعيدة» أو منحصرة لفترة طويلة، كما أن مشكلات التصحر والفيضانات والتلوث البيئي كلها تضرب بالعالم العربي، كما يحدث حول العالم، وتهدده بشكل يومي.
العالم اليوم لديه 9 ملايين صنف من أصناف النباتات والحيوانات، بما فيها الحشرات. ويحذر عالم الأحياء والمستكشف من مؤسسة «ناشيونال جيوغرافيك» الدكتور إنريك سالا، من الخطر الملموس الذي يهدد وجود مليون من تلك الأحياء خلال العقد المقبل إذا لم نحمِ البيئة. قد يقول البعض إننا نخسر البشر بشكل يومي من جراء الحروب والمجاعة والأمراض، فما مشكلة أن نخسر صنفاً من أصناف الحشرات؟ المشكلة هنا أن النظام البيئي كله يفقد توازنه، وبذلك نصبح جميعنا مهددين. الدكتور سالا يقود جهوداً مع عدد من القيادات العلمية المختصة بشؤون البيئة لإقناع دول العالم على إبرام اتفاق تتم بموجبه حماية 30 في المائة من الأراضي والمياه على الكرة الأرضية قبل عام 2030، أي جعل 30 في المائة من أراضي ومياه العالم محميات تستطيع من خلالها الطبيعة أن تتعافى، وأن تولد حياة جديدة تستديمنا جميعاً.
تنعقد العام المقبل قمة عالمية «كوب 15» حول البيئة في الصين، باجتماع من المتوقع أن يكون تاريخياً. كان من المفترض أن يعقد هذا العام؛ لكنه تأجل بسبب «كوفيد- 19»، وسيكون الوباء في أذهان المسؤولين عندما يجتمعون العام المقبل، إنْ تمكنَ العالم من العودة إلى السفر واللقاءات الشخصية. ومن المرتقب أن تقرر دول العالم في ذلك الاجتماع، كم من الأراضي والمياه ستحمي.
والدكتور سالا يحذر من أن «الوقت ليس في صالحنا» مع تسارع وتيرة التغييرات المناخية والتراجع في الأنظمة البيئية. ففي كل بلد طبيعة وحيوانات أو نباتات خاصة به تتأثر بأجوائه، لذلك تكون مسؤولية كل دولة أن تحمي تلك الكائنات التي يشكل جميعها عاملاً أساسياً للطبيعة كلها. وعلى الدول العربية أن تفكر من الآن في سياساتها تجاه المحميات، وبناء شراكات مع دول وشركات تريد أن تساهم في المحميات، وفي خلق فرص عمل من خلال المشروعات البيئية والاقتصادات المستدامة. يجب العمل على تمويل حماية البيئة بدلاً من تمويل السياسات التي تضرها.
الدكتور إنريك سالا أصدر كتاباً الشهر الماضي بعنوان «طبيعة الطبيعة»، يقول فيه إن «أكثر من نصف الأراضي الصالحة للسكن في العالم اليوم هي زراعية - وقد خسرت الغابات والأراضي الطبيعية التي كانت تغذي التربة – وحوالى 80 في المائة من تلك الأراضي تستخدم للماشية». ويضيف: «إن نستمر بهذه الطريقة، فسنكون نحن البشر الحيوانات الكبيرة الوحيدة الباقية على الكرة الأرضية، وغذاؤنا البسيط وحيواناتنا الأليفة فقط... ولن تشكل النباتات نسبة كبيرة من الغابات الكبيرة؛ بل ستكون هناك فقط أراضٍ زراعية - صناعية تفتقد إلى التنوع البيئي. هل يمكننا العيش في كوكب من دون الحياة البرية؟».
هذا الطرح علينا أن ننظر إليه نحن في العالم العربي؛ حيث لدينا طبيعة خلابة من الجبال إلى الصحراء إلى النباتات النادرة التي تدرس حول العالم. لو استطعنا أن نتحد من أجل حمايتها، لربما تقل أزماتنا ونجد ما يجمعنا على هذه الأرض. والأهم من ذلك، هناك دراسات تؤكد على الفرص الاستثمارية والاقتصادية التي يطرحها الاقتصاد البيئي.
يقول ولي العهد البريطاني، الأمير تشارلز، في مقدمة كتاب «طبيعة الطبيعة»: «الطريقة الوحيدة إلى الأمام هي إعادة الاتصال بالطبيعة، وإعادة الأنظمة البيئية لعملها الطبيعي، كي يكون نظام الدعم الأساسي لحياتنا – وماكينة الاقتصاد الإنساني – قادراً على مواصلة دعمنا وبقية أشكال الحياة على الكرة الأرضية».
ربما من الفوائد النادرة من جراء وباء «كوفيد- 19» أننا رأينا التأثير الإيجابي على الطبيعة بعد أشهر قليلة من توقف الحياة العملية التقليدية، إذ رصدت منظمات حول العالم تحسناً في الأجواء، وانخفاض نسبة ثاني أكسيد النيتروجين بنسبة 60 في المائة بداية العام، مع تراجع عدد تحليق الطائرات في السماء، وتقليل حركة السيارات، وتوقف المعامل الضخمة على الأرض، كما رصدت تكاثر الأسماك والحيوانات مع إبقاء البشر في منازلهم لأشهر عدة. وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على قدرة الطبيعة على التعافي إذا أعطيناها فرصة. هذه طبيعة الطبيعة فلنحْيِها.