في واشنطن، أُبرم الاتفاق التاريخي بين الإمارات والبحرين وإسرائيل، وسط تأكيد أميركي ودولي لأهمية تطوير الإدارة السياسية للأزمات في المنطقة وإطفاء نيران الإرهاب المستعرة، ولن يتم ذلك من دون محور جديد قوامه الرهان على الدول المفيدة، ولا يمكن إنكار دور إسرائيل المفيد على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية، ولها جهدها الحثيث في مواجهة الإرهاب.
الاتفاق التاريخي سيغيّر وجه المنطقة. إنه بمثابة قلب الطاولة على محور الممانعة بعد طول استعراض لميليشياته الإرهابية.
يمكن للفلسطينيين اللحاق بركب هذه الاتفاقيات ودرس الممكن، وقراءة الخطط المحتملة، ليس من المعقول أن تظل السلطة بحالتها الارتكاسية السلبية إزاء التحولات التي تعصف بالعالم. الدول اليوم ليست جمعيات خيرية تبذر طاقاتها الدبلوماسية لخدمة من لم يخدم نفسه. لقد بذلت دول الخليج للقضية الفلسطينية من الجهود الدبلوماسية طوال النصف الثاني من القرن العشرين ما يمكنه إيقاف حرب عالمية، ولكن تخاصم القادة الفلسطينيين تسبب بفشل كل تلك الجهود الكبرى، وقد أدركت القيادات الآن أن على الفلسطيني المظلوم أن يثور ضد قادته الذين أوصلوه إلى ما وصل إليه، فهم العائق أمام نيل الحق وتأسيس الدولة وإتمام التفاوض.
الترهل السياسي أصاب السلطة الفلسطينية ولم يعد بإمكانها الانطلاق والوثب نحو المرحلة الجديدة، ولا تستطيع بعدّتها الفكرية القديمة أن تواجه المصائر الخطيرة بإجراءات استباقية تحفظ للمظلومين حقوقهم.
يمكن للفلسطينيين محاسبة القادة وذلك على مستويين اثنين: أولهما محاسبة سياسية، لم تطرح حتى اليوم بشكل كامل حيثيات ومسببات رفض المسؤولين المستمر لكل الصفقات الواقعية التي عُرضت عليها منذ بدء المشكلة وحتى اليوم، ولم يفسروا بشكل علمي ومنهجي سبب رفضهم لخطة كوشنر للسلام أو ما عُرفت بصفقة القرن، وهي آخر الفرص المتاحة أمامهم، ليس شرطاً القبول بكل تفاصيل أي خطة للسلام وإنما البدء بالتفاوض وطرح التحفظات، وهذا هو أساس نجاح كل تفاوض، لكن الانكفاء على الذات بانتظار المخلّص، هذا عمل لا يمتّ إلى السياسة بصلة. ثانيهما: فتح ملفات الفساد. من حق الفلسطيني السؤال عن مليارات الدولارات المدفوعة من دول الخليج لصالح القضية، وهي مبالغ يمكنها تأمين بنية تحتية صلبة وبناء أساس مفيد وبارع للمجتمع، ولكن كل تلك الأموال اختفت وسط تضخم لأرصدة مسؤولين وتباهيهم بممتلكات وعقارات وطائرات لم يمتلكها بعض المسؤولين الداعمين للقضية في الخليج، يمكنهم تشكيل لجنة للتقصي عن الفاسدين من المسؤولين ومصائر الأموال التي دفعت لهم.
الاتفاق التاريخي يُنهي مرحلة من المجاملات غير المفيدة، فالحقيقة مُرة أحياناً، وإذا كان كثير من قادة فلسطين استثمروا عبر قضيتهم لأنفسهم فهذا عنوان قتل وإزهاق لروح القضية النابضة في وجدان العرب. ولذلك تعبّر الاتفاقيات عن أوان الدخول في زمن أولوية كل دولة ومصالحها على أي قضية مهما اكتسبت قوتها الوجدانية ومنها فلسطين. ولذلك فإن ما أعلنته البحرين دقيق جداً: «البحرين قضيتنا المصيرية» هكذا تدار الأمور حالياً، ولكن كيف لسلطة بخطابها الخشبي أن تفهم مثل هذا المنطق المدني؟!
والخطورة التي يجب على المسؤولين بالخليج مواجهتها صعود الخطاب الإقصائي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وذلك عبر منصات متعددة، رغم أن السعودية هي من قادت الاعتراف بالمنظمة كممثل للفلسطينيين، ولكن حين كانت المنظمة تتبع خطاباً متزناً نوعاً ما، الآن هذا التماهي شديد الخطورة بينها وبين منظمة «حماس» وبين منظمة «حماس» و«حزب الله» والحوثي توشك المنظمة أن تصل إلى خط خط بعيد في هذا الاتجاه. يمكن فقط للقادة العقلاء داخل السلطة أن يحرروا المنظمة من مفردات المسار الخشبي ونظرياته وأدواته وإلا فإن المشكلة ستكون كارثية.
ثمة دعاية واهية يروج لها حسن نصر الله وبعض أتباعه أن سبب الاتفاق تقديم هدية انتخابية لترمب، وهنا أُحيل إلى ما كتبه الأستاذ عبد الرحمن الراشد في مقالته بعنوان: «السفارة خرجت من العمارة» ومما قاله: «الحقيقة أن الإخوة في رام الله يبسّطون فهمهم لما يحدث، لأنَّ ما يجري أعمق وأهم. فالعلاقة مع إسرائيل ليست علاقات عامة بل علاقات دبلوماسية واقتصادية كاملة، ولم تُتخذ من أجل إنجاح ترمب أو إرضائه، كما قال الناقدون لها. العلاقة مع إسرائيل عمل استراتيجي يعبر عن مصالح عليا لهذه الدول. أما الانتخابات الأميركية فقد كان يكفيها خطوات دعائية إعلامية، مثل استقبال مسؤول إسرائيلي، أو تنظيم مؤتمر مشترك أو مباراة في كرة التنس. أما العلاقات مع إسرائيل تحت الطاولة فهي مسألة لم تعد مهمة مع التبدلات الأخيرة».
بعد الاتفاق، الفرصة ما زالت مواتية أمام الفلسطينيين للاستفادة من زخم السلام، والانعتاق من الاختطاف التاريخي للقضية من السلطة التي فشلت ولم تكسب جولة واحدة في كل المفاوضات عبر التاريخ.