عندما تنشأ الصراعات في المجتمعات، يحاول البعض ربطها بالتدين، معتقداً أن الدين يُفرّق الناس ولا يجمعهم، بيد أن الاستقراء العلمي للتاريخ يُبين لنا عكس ذلك، عندها نعرف أن الخلافات والصراعات تنشأ في حقيقة الأمر بسبب ابتعاد الناس عن جوهر التدين، أو الفهم القاصر للدين. لعل التاريخ يقول لنا إن من أفضل الحضارات الإنسانية التي عرفها التاريخ كانت الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، حيث عاش الناس المعنى الحقيقي للسلم المجتمعي، فكان هناك العرب والبربر والأوربيون من شتى أعراقهم، ومن الجانب الديني كان الإسلام الذي يحترم بقية الديانات السماوية فهاجر اليهود المضطهدون في أوروبا إلى حضارة الأندلس، بل حتى أتباع الكنائس الأخرى غير المرحب بهم في أوروبا الكبرى، وجدوا ضالتهم في دين يحمي لهم حقوقهم، وكانت النتيجة ما شهد به الأعداء قبل الأصدقاء، نتج عن ذلك السلام حضارة قادت الأنام في مجالات العلم والمعرفة المختلفة، وتعلمت منها البشرية المعنى الرائع للحضارة الإنسانية، السؤال المحوري هنا، كيف تمكن المسلمون من هذا الفهم الرائع لدينهم؟
من يتتبع تطور الفكر الإسلامي ومراحل نضج الفقه الإسلامي يجد أنه تميز بسمة رائدة تتلخص في كلمة الاجتهاد، فكلما أوصدت الحضارة الإسلامية هذا الباب بدأت في دركات التخلف. الوحي السماوي بشقيه القرآن والسنة يمثلان للمسلمين المحور الخالد في الرسالة السماوية، هذان الأمران لا يأتيهما الباطل لكن التأويل الخاطئ هو مكمن الخلل، ومرد ذلك الزلل إلى أمرين أساسيين، أن يتصدر لشرحهما غير المتخصص، أو أن نلزم الناس بفقه لا يتناسب مع زمنهم لأننا قررنا تجميد الاجتهاد والاعتماد على ما مضى من آراء كانت ناجحة في زمنها، لكن من اجتهد بها لو علم بحالنا لسخر منا.
بالعودة إلى الأندلس سنجد نموذجاً للوعي الفكري الذي تجدد عبر الزمن، من درس فقه الإمام مالك الذي بدأ في المدينة المنورة سيجد أنه مر بمراحل في التجديد عبر علماء عاشوا زمنهم واجتهدوا له، ففي حضارة بغداد رأينا مدرسة جديدة لهذا الفقه، والسبب الأساسي في تصوري أن تلك المرحلة تمثل اللقاء الحقيقي بين أكثر من حضارة فكان اللقاء بين العرب وغيرهم من أهل فارس وعموم قارة آسيا، النقلة الأكبر في هذا الفقه كانت في الاندلس حيث كانت بوتقة حقيقية انصهرت فيها مدارس فكرية متعددة وأعراق بشرية مختلفة، مما اقتضى تلك النهضة في التصور الفكري والفقهي بما يتناسب مع متطلبات العصر الأندلسي. الفكر المتجدد نافذة البشر للتحضر، وعكسه في الانغلاق الفكري والخوف من التجديد.
هل يخطر في بالكم دولة عربية نجحت في الارتقاء في سلم الحضارة العالمية يعيش فيها بشر من 200 جنسية مختلفة، تسعى حكومتها للارتقاء بكافة خدماتها للمستوى العالمي وتحصد أفضل أرقام التميز والجودة في الخدمات المقدمة. إن تجربة الإمارات تمثل في طياتها نموذجاً لأندلس الشرق العربي، فهنا دولة قائمة على جذورها العربية الإسلامية لكنها منفتحة على التجارب الإنسانية.