لم تنتظر إدارة ترامب موعد جلسة مجلس الأمن في 18 تشرين الأول (أكتوبر) لمراجعة مواقف الدول من تمديد حظر بيع الأسلحة الى الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فاستبقت المواقف الروسية والصينية والأوروبية المتوقعة وألغت عملياً جدوى النقاش بفرضها عقوبات متشدّدة على طهران بموجب ما يسمّى آلية "سناب باك" Snap back التي تُعيد فرض العقوبات تلقائياً إزاء عدم تنفيذ إيران التزاماتها. موسكو وبكين تستعدان لقيام واشنطن بفرض عقوبات مدمّرة عليهما عندما تقومان ببيع السلاح الى إيران بعد 18 تشرين الأول (أكتوبر). أوروبا ترتجف في ضعفها وهي تتخبّط في قصر النظر والانقسامات بلا أيّة مكانة تُذكَر في المعادلة الجغرافية – السياسية العالمية. إيران تُصعّد بتهوّر في منطقة الخليج، ومن دون أي اعتبار سيادي أو إنساني في لبنان مُحتميةً بالثلاثي الصيني – الروسي – الأوروبي، مع اختلاف أسباب ومرجعية الحماية. السعودية طالبت المجتمع الدولي من منصّة الجمعية العامة للأمم المتحدة وعلى لسان الملك سلمان بن عبدالعزيز بالتحرك لردع سياسات إيران في المنطقة مشددةً على أهمية نزع سلاح "حزب الله" في لبنان إذا كان للبنان أن يكون بلداً طبيعياً. ردع إيران دولياً يجب ألا يبقى موقفاً سعودياً، بل على الأمم المتحدة أن تستعيد بعض القيادة الأخلاقية moral authority وتكف عن التملّق لإيران والخوف منها تحت ذريعة دورها الإقليمي. بالتأكيد لإيران العريقة الحق بالدور الإقليمي إنما ليس للجمهورية الإسلامية الإيرانية أي حق بتدمير سيادة الدول العربية كما فعلت بسوريا وتفعل في العراق وبلبنان. أوروبا مُطالبة بأن تكُفّ عن التذرّع بالتخوّف من انتقام إيران بامتلاك القنبلة الذرية لتبرير خذلها للبنان لا سيما أن أكبر انفجار في التاريخ بمثابة قنبلة ذرية دخل بيوت اللبنانيين لأسباب لا تخفى على القيادات الأوروبية التي تدفن رؤوسها في الرمال. حان لأوروبا أن تحيي حسّها السياسي والإنساني وتفكيرها الواقعي بدلاً من إعطاء نفسها حق مباركة توسّع إيران - عبر قوات غير نظامية تابعة لها - في دولٍ سيادية تستخدمها على حساب شعوبها، كما تشاء. هذه ازدواجية تاريخية حان لأوروبا أن تكُفّ عنها، وحالاً قبل فوات الأوان.

الرئيس الحالي لـ"مدريد كلوب" الذي يضم الرؤساء ورؤساء الحكومات السابقين، دانيلو ترك، وهو الرئيس الأسبق لسلوفينيا، قال أثناء الحلقة 15 للدائرة الافتراضية لقمة بيروت انستيتيوت في أبو ظبي إن الاتحاد الأوروبي يلمّح تكراراً أنه يريد دوراً أكبر في الجغرافيا – السياسية "ورأيي هو أن الاتحاد الأوروبي ليس جاهزاً لمثل هذا الدور" لأن الاتحاد الأوروبي "يفتقد تماسك المنطق" coherence الضروري لهذا الدور.

الانقسامات مُستعِّرة داخل البيت الأوروبي "من بيلوروسيا الى روسيا الى تركيا والى فلسطين وليبيا" قال تُرك وبالتالي، "يجب التوخّي بالحذر عبر عدم توقّع أي دور قويّ من الاتحاد الأوروبي (في الجغرافيا – السياسية) مع انه سيلعب دوراً مهمّاً في التنمية، وبصورة عامة في النقاش السياسي حول العالم".

القيادات الأوروبية تقع بين مطرقة "الاتحاد" وسندان "السيادة" التي وافقت على قضمها عند إنشاء الاتحاد الأوروبي، بطبيعة الحال. فلا هي قادرة على ممارسة السيادة المطلقة في قراراتها، ولا هي جاهزة للتماسك في المواقف والقرارات. لذلك، يقال إن القمة الأوروبية التي كان مُزمع عقدها في 24-25 الشهر الجاري تم تأجيل موعدها بأسبوع لمحاولة أخرى للتغلّب على انقسامات جذرية في الملفات كافة. رئاسة الاتحاد، ألمانيا، ليست في موقف تُحسَد عليه إنْ كان في العلاقة مع روسيا أو في إدارة ملف إيران. فهي قد تستقوي مضطرة مع روسيا، وقد تتهاون مع إيران تعويضاً عن شَدّ العضلات الأوروبية مع الصين وروسيا وتركيا، لكنها لن تتمكّن من لجم المشاريع الإيرانية التي ستفرض عليها مواقف الكف عن تهادنها.

"الحرس الثوري" الإيراني دشّن هذا الأسبوع قاعدة عسكرية بحريّة جديدة في مضيق هرمز استغرق بناؤها 6 سنوات، قال عنها قائد "الحرس الثوري" اللواء حسين سلامي انها "ستُساهم في تعزيز ورفع مستوى العمليات البحرية الإيرانية في مجالات الدفاع والهجوم والرصد في منطقة الخليج". وأكّد أن "القاعدة تقع في واحدة من أكثر المناطق استراتيجية من حيث الدفاع والهجوم، في الخليج ومضيق هرمز". وقال إن الهدف منها "الإشراف التام على دخول القُطع البحرية القادمة من خارج المنطقة في مضيق هرمز والخليج وبحر عمان، وخروجها". جاء ذلك بعد أيام على عبور حاملة طائرات أميركية مع قُطعها البحرية القتالية المتطوّرة مضيق هرمز.

"قد تبدأ الصين بوضع بحريّتها في المرافئ الإيرانية خلال السنة المقبلة، وليس من قبيل المصادفة أن مناورات عسكرية ستبدأ قريباً جداً تشمل إيران والصين وروسيا في منطقة الخليج"، وفق ما قال نائب وزير الخارجية الروسي الأسبق أندريه فيدوروف، أثناء الحلقة المستديرة لقمة بيروت انستيتيوت التي ضمّت الى جانبه والرئيس دانيلو ترك كل من وزير خارجية مصر الأسبق نبيل فهمي، وريتشارد فونتاين الرئيس التنفيذي لمركز الأمن لأميركا الجديدة CNAS) Center for a New American Security).

فيدورف الذي يرأس حالياً "صندوق الأبحاث والاستشارات السياسية" وهو عضو في "مجموعة الاستشارة الإدارية للرئاسة" يرى أن الرئيس دونالد ترامب سيفوز بالتأكيد بولاية ثانية وليس المرشح الديموقراطي جو بايدن. "فإذا فاز ترامب، فإن ضغوطه على إيران ستستمر وستزداد" يقول فيدورف، وأضاف: "وحتى إذا فاز بايدن وأصبح رئيساً لأميركا، لا اعتقد أنه سيكون لطيفاً مع إيران حتى ولو كانت هناك عودة أميركية الى الصفقة النووية مع إيران، فإن الباب سيبقى مفتوحاً على الصفقات المسلّحة مع إيران"، مشيراً كمثال الى صفقات أسلحة بين إيران وروسيا قيمتها 8 مليارات دولار تشمل الأنظمة الجديدة والغواصات والطائرات. وأردف: "فبغض النظر إنْ فاز ترامب أو بايدن، فإن ايران ستبقى مثيرة الاضطرابات" troublemaker في الشرق الأوسط.

برأيه أنه "يجب علينا أن نكون مستعدّين لحلول وتحالفات غير تقليدية، بل لربما ائتلافات معادية للولايات المتحدة في حالة إيران. لذلك، ستكون الأمور في نظري مختلفة كثيراً وأصعب بكثير السنة المُقبلة. فلا يجب أن نتوقع ان بعد الانتخابات الأميركية سيبتسم العالم وسيتمتّع بالاستقرار". وأضاف: "كروسيا، اننا نواجه مشاكل عميقة وجدّية في علاقاتنا مع الاتحاد الأوروبي بسبب بيلاروسيا وبسبب قضية نافالني (المنشق الروسي الذي يتّهم أوروبيون روسيا بتسميمه)، وإننا نواجه غياباً في أي حوار جدّي مع الولايات المتحدة. ولذلك أن روسيا تجد نفسها في وضع الآن تزداد فيه كلاعب منعزل وحيد، وهذا ليس جيداً لروسيا، بل انه خطير قليلاً".

ريتشارد فونتاين ميّز بين "المعاهدة" التي يريدها فريق ترامب بأي ثمن وسبيل كان بما في ذلك "تغيير النظام" وبين "خطة العمل الشاملة المشتركة" JCPOA التي يريدها فريق بايدن، فيما "يضغط على إيران كي تحدّ من نشاطاتها الاقليمية". وأضاف: "إذا أصبح بايدن رئيساً فإنه سيقوم بإعادة احتضان الصفقة النووية JCPOA وذلك كمؤشر الى العالم بأنهم يعيدون احتضان الالتزامات التي قُطِعت قبل إدارة ترامب". فونتاين الذي عمل سابقاً في وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي في إدارة جورج دبليو بوش قال إن فريق بايدن "سيعود الى الصفقة JCPOA من دون شروط مسبقة، وفي الوقت ذاته، سيحاولون التوصل الى وسيلة ما للتعاطي مع ما يسمونه قضايا إيران الإقليمية، تواجد إيران في دمشق ونفوذها في لبنان واليمن والى ما هنالك". وأكّد أيضاً أن الولايات المتحدة، رغم الكلام عن أن أياديها احترقت في العراق وليبيا، هناك في الواقع الآن "عدد أكبر من القوات الأميركية في الشرق الأوسط اليوم مما كان هناك مع بدء إدارة ترامب" وهناك تفكير جدّي في واشنطن حول كيفيّة تطوير المصالح الأميركية في المنطقة بصورة تتّسم بالديمومة بما في ذلك التواجد العسكري الأميركي في الشرق الأوسط.

نبيل فهمي، مؤلّف كتاب "الديبلوماسية المصرية في الحرب والسلام والانتقالية" وافق على ان القوات الأميركية باقية "لكنها لا تريد الانخراط ميدانياً" وقال إن روسيا "تريد مضاعفة نفوذها لكنها لا تسعى وراء المواجهة مع الولايات المتحدة أو أيٍّ كان في المنطقة بما يتعدى سوريا". وأضاف أن ترامب "لن يريد استعمال القوّة ضد إيران بسهولة بعد الانتخابات. والسؤال هو: هل ستُستخدَم القوّة قبل الانتخابات؟، فيما بايدن لن يريد استخدام القوة" اطلاقاً ضد إيران.

في رأيه "أن اللاعبين الإقليميين هم الذين يقرّرون" مدى توسّع ادوار اللاعبين الدوليين في الشرق الأوسط إنْ كان في سوريا أو ليبيا، وقال: "فهذا زمن قيام اللاعبين الإقليميين بصياغة مستقبلهم، وإلا فإنهم سيصبحون لاعبين هامشيين وهذا كارثي". ويعتقد فهمي أن في مسألة معقدة كليبيا، مثلاً، هناك حاجة الى "مشاورات ديبلوماسية جدّية بين مصر وروسيا وتركيا، مباشرة أو غير مباشرة". بمعنى "ديبلوماسية هادئة عبر طرف ثالث"، مقترحاً أن تكون روسيا الطرف الثالث في تسهيل المباحثات بين مصر وتركيا "لأن لها علاقات جيدة مع الاثنين".

بغض النظر إن كان اللاعب الدولي أميركا، الصين، روسيا، أو دولة أوروبية، ان ما تحتاجه المنطقة العربية هو إيضاح مطالبها من كافة هذه الدول وبدء الدول الفاعلة في وضع النقاط على الحروف بالذات في ما يتعلق بردع هذه الدول للجمهورية الإسلامية الإيرانية. هناك مصالح مشتركة، إنما هناك الحاجة الى دفع هذه الدول الى مراجعة مصالحها ومواقفها. فالدول العربية مُتّهمة بأنها تعتمد غض النظر كجزء أساسي من سياساتها، وقد حان الوقت للانقلاب على هذا العُرف في أكثر من ملف، ومنه لبنان.

فلبنان بات الضحية الأوضح والأبرز لسياسات الثلاثي الروسي – الصيني – الأوروبي الذي يتملّق لإيران ويحميها ويرفض إما ردعها أو محاسبتها على ما تفعله بلبنان. الصين جاهزة لتدوس السيادة اللبنانية كنقطة انطلاق لطموحاتها الإقليمية. روسيا مستعدّة لبيع لبنان ومَن فيه صيانة لموقع قدمها في سوريا. أما الدول الأوروبية فإنها تتظاهر بالرقي نحو لبنان لكنها في الواقع تعرف تماماً أنها تستخدمه برخصٍ سلعةً للانتقام من تملّص دونالد ترامب من اتفاقية سلفه باراك أوباما مع إيران. هوس الأوروبيين بالصفقة النووية سلب عنها الأخلاقية بتبريرها الاضطرار لمراعاة طهران خوفاً من امتلاكها القنبلة الذرية فيما تعترف أن موافقتها على استثناء مشاريع ايران الإقليمية من المفاوضات تلبية لإصرار إيران هو الذي ساهم جذرياً في دحض "الحرس الثوري" كلياً لبلدٍ كلبنان. هذه مواقف بائسة لقارة تدّعي الحضارة واحترام السيادة، وقد حان الوقت لمواجهتها بلغة الاتهام والمحاسبة.