منذ استقلال الكويت في أوائل ستينات القرن الماضي، اختطت لنفسها منهجاً متوازناً داخل محيطها الإقليمي والدولي، كما انتهجت نهجاً محايداً فيما يتعلق بالقضايا الدولية، وخلال عقود مضت قاد المغفور له بإذن الله أمير الكويت الراحل الشيخ صباح الأحمد الصباح مسيرة الكويت الدبلوماسية ببراعة وحنكة، حيث تمكن -رحمه الله- من قيادة دفة السفينة ببراعة وسط معترك من الأزمات والصراعات المحتدمة، وتمكن من الحفاظ على اسم الكويت كدولة لها وزنها ومكانتها الفريدة في كل من العالمين العربي والإسلامي؛ على حد سواء.

لم تكن المناصب الرفيعة التي تقلدها الشيخ الصباح رحمه الله (كوزير للإعلام ووزير للخارجية ورئيس لمجلس الوزراء قبل أن يصبح أميراً لدولة الكويت الشقيقة لما يقرب من الخمسة عشر عاماً) بالعامل الوحيد الذي مكنه من إدارة دفة الحكم في بلده ببراعة، رغم الظروف الحالكة التي ألمّت بالمنطقة العربية عموماً وبالكويت تحديداً، بل مثلت حكمته واتزانه العوامل الخفية التي مكنته من النجاة بسفينته وسط عنف الأمواج المتلاطمة من حوله، ذلك أن الكويت كانت مطمعاً إقليمياً للعديد من القوى الإقليمية التوسعية التي طالما سعت للسيطرة على مواردها وخيراتها، غير أن إدارة الأزمات بالكفاءة المطلوبة تتطلب دوماً شخصيات تتمتع بالكاريزما والحضور القوى وحسن تقييم الأمور.

تمتع الأمير الهادئ، الذي لم تكن الابتسامة الوقورة الودودة تفارق محياه، بالعديد من السمات الذاتية الراقية والأصيلة، فالهدوء النفسي والعزوف عن التشاجر وعدم الميل نحو التصعيد والاحتفاظ برباطة الجأش وسط احتدام العواصف هو ما مكنه -رحمه الله- من عدم التصادم الدامي مع القوى الطامعة في المنطقة إلا عندما استدعى الأمر ذلك، ومن المعروف عنه أنه كان يفضل اللجوء للطرق السلمية قدر الإمكان لحل الأزمات، ولعل قدرته على استصدار قرار من مجلس الأمن خلال فترة الغزو العراقي لأراضي الكويت يدين العراق ويطالبه بالانسحاب الفوري غير المشروط من الكويت، يعد الدليل الأبرز على تمتعه بتلك الحنكة والرصانة وحسن إدارة الصراعات.

لعله من الجدير بالذكر أن نذكر هنا في هذا السياق مدى اتزان وحصافة قادة الكويت وأبرزهم الشيخ صباح الصباح، فيما يتعلق بالتهديدات التي طالت الكويت من الرئيس العراقي الأسبق عبدالكريم قاسم أو خلفه عبدالسلام عارف -في ستينات القرن الماضي- والداعية لاحتلاله ظلماً وعدواناً، فلم يتحرك الرجل إلا باعتباره رجل سلام لا رجل حرب حتى بعد احتلال العراق الغاشم لأراضي الكويت عام 1990، وقد ركز كل جهوده وقتذاك على القيام بالعديد من الجولات المكوكية بهدف توضيح طبيعة الموقف الكويتي، وإبراز زيف المزاعم التي صرح بها العراق آنذاك، وحتى بعد انتهاء الغزو لم يكرس الأمير جهوده للانتقام من العراق وحلفائه، ثأراً من مساعيهم اليائسة لاحتلال بلاده ولقطع يد الغدر التي نالتهم غيلة، بيد أنه اختار طريقاً مختلفاً ركز خلاله كافة جهوده لتحرير الأسرى الكويتيين من قبضة السلطات العراقية.

ما نسطره هنا هو محاولة لإلقاء الضوء على مسيرة قائد وزعيم كان له دور بارز في رسم سياسة متزنة ومتوزانة لبلده، لم تخلُ من نهضة اقتصادية ملموسة، ممزوجة بمحتوى إنساني فريد أكسبه عن حق لقب أمير الدبلوماسية الهادئة، وهو اللقب الذي توج مسيرة طويلة للكثير من المبادرات والمشروعات الإنسانية والتنموية التي اهتمت الكويت بتفيذها، بخلاف مساعيه الحكيمة في رفع مستوى معيشة ونهضة أبناء شعبه والحفاظ على حقوقهم ودعم مستقبلهم، مانحاً الكويت مكانة مميزة وثقلاً بارزاً في المحيط الإقليمي والدولي.

لعل أحد أهم العوامل التي ساهمت في أن تتبوأ الكويت مكانتها المرموقة الحالية هي شخصية أمير الكويت نفسه وابتسامته الأنيقة، ميله للسلم ونفوره من التشاحن، عقلانيته وفطنته وشعوره الإنساني الجارف وإحساسه بالمسؤولية، ولعل قيامه قبل وفاته بزيارة العراق والاهتمام بفتح صفحة جديدة للعلاقات بينهما تدل على مدى تفتحه وفهمه للمتغيرات والمستجدات في المنطقة، فالتحالف الآن مع العراق هدفه تقليض النفوذ الإيراني المتنامي والمتصاعد بوحشية، واحتواء العراق رغم أزماته العميقة والمتعددة التي تسبب فيها النظام البائد لصدام حسين.

لعله من الصعوبة بمكان حصر الإنجازات والنجاحات الخاصة بعقود من العمل الدبلوماسي المعتدل الهادئ والمتوازن للأمير الراحل في هذا الحيز المحدود، لقائد امتلك رؤية ومنظوراً حضارياً أراد تطبيقه في كافة المجالات التنموية، وامتلك حلماً تمنى تحقيقه وقد بدأ بالفعل في حصد ثمار غرسه، ولعل النهج الذي اتبعه أمير الكويت السابق -رحمه الله – يعد مدرسة سياسية في حد ذاتها، ولهذا نتوقع أن تستمر الكويت في انتهاج نفس النهج النبيل والسير في ذات الطريق المستنير، الذي عبَّده لها قائدها المحنك ذو الأفق المتسع، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.