لم أتصور عندما أصبحت مديراً لمكتب معالي الوزير الشيخ صباح الأحمد وزير الخارجية في يناير 1964، أنني سأعمل مع موسوعة في شكل رجل، فقد آمن بأن الكويت مع الاستقلال أصبحت محمية عربية بعد أن كانت بريطانية، ولكي يتحقق ذلك كانت الأولويات الإيمان بإزالة الخلافات العربية مهما كانت صعوبتها، فانطلق في كل الزوايا يتعامل مع كل الخلافات ويقيم سبلها للحل، ولم يكن له جهاز كبير يساعده، وإنما كانت طاقته بلا حدود، وإيمانه بلا قيود، وانطلاقاته من دون تردد.

استمر من 1963 وحتى 1967 مع مشكلة اليمن، بين مصر والمملكة، وتدخل في حل ملف البحرين مؤثراً وناصحاً، وسعى مساهماً لتحقيق انطلاق الإمارات التسع، ثم السبع، وفلسطين وحروب عرفات مع سوريا ولبنان والأردن، وموريتانيا والمغرب، لم يترك شيئاً بما فيها باكستان وبنغلادش ومجيب الرحمن..

كان مدركاً للدور التنموي العربي، فأعطى لمن يستحق ولمن يحتاج بلا قيود، وبلا مساومات، شاركت رحلاته إلى أفريقيا وعواصم أخرى، لا يهمه النوم على الحرير أو على حصير، كانت له رسالة، فيها نبل، نبعت من إدراكه لواقع الكويت.

تأثر الشيخ صباح من واقعتين: الأولى - رفض الرئيس عبد الناصر لعقد لقاء مع الملك فيصل في الكويت، وهو طموح كان يتعاظم في خاطره، وبسبب الخلاف كانت كارثة 1967، والثانية - تآمر صدام حسين بالغزو، وسببت الألم الحاد لأن الشيخ صباح كان رئيس اللجنة العربية لمساعدة العراق دولياً، وهو الذي تطوع متنقلاً من مكان إلى آخر عابراً المحيطات للدفاع عن العراق، مع اتهامات عراقية لئيمة وتطاولات إعلامية.

وبصراحة، لا يستحق حكام العراق آنذاك ذلك الجهد الكثيف الذي قدمه، لكنه تجاوز الخيانة بروح التصميم على مرحلة متجددة تتميز بالانفتاح الإنساني على مختلف المجتمعات، مشاركاً المنتديات التنموية، مدافعاً عن الفقراء، وداعياً الأغنياء للانضمام إلى حملاته السخية للمساعدة، وصار قائداً للإنسانية بقرار شرعي من الأمم المتحدة..

لم يخطط الشيخ صباح ليكون وزيراً أو أميراً أو رئيساً للوزراء، كان شريكاً في شؤون الحكم في عهد الشيخ صباح السالم، وتعاظمت مسؤولياته داخلياً وخارجياً، واتسعت خطواته في الانغماس في الشأن الداخلي.

شاهدته يبني الجسور بين الوزراء والكتل السياسية، ساعياً لتحقيق توازن برلماني، وساعدته شخصيته الحميمية في كسب ثقة الآخرين، متلاطفاً مع الجميع مقدماً المقترحات ومحتملاً العثرات، لكنه لا يتوقف..

كانت حياته رواية واسعة، متنقلاً بين البحر للصيد، والبر للقنص، ومهتماً بالزراعة، ومتابعاً للثقافة، وملبياً الدعوات الاجتماعية، عبر حضوره المكثف والمساند..

كان رجل مبادرات بروح عروبية صادقة، جامعاً الناس حوله، لا ترهقه الخلافات ويشتد عزمه عند الأزمات، تحمل كثيراً من نظام صدام، لكنه حافظ على وقاره، ومن أهم المبادرات التي طرحها في اجتماع لوزراء الخارجية العرب في بغداد بعد النكسة 1967، عندما انفجرت أعصاب بعض العرب بسبب اليأس، واقترحت مجموعة المتشددين العرب قطع النفط عن الغرب، لتأتي لحظة الشيخ صباح بطرح فكرة رفض المقاطعة وتحويلها إلى مساندة مالية من دول النفط إلى كل من الأردن ومصر وسوريا، وحوّل مجرى المؤتمر من المواجهة إلى الموقف البناء الايجابي، وكان ذلك الموقف أساس قرار الخرطوم بدعم الدول المتأثرة..

لم يأت ذلك من ضربة حظ ولم يتأسس لأنه ابن حاكم وجده حاكم وابن الأسرة، إنما حصيلة جهد لا يتوقف ومزاج لا يتذمر وصبر لا يشتكي وتأهيل نفسي نادراً ما يتوافر وحساسية بأصول الحكم لا تضعف ومكانة نادرة في تكوين صداقات، وابتسامة لصيقة لا تختفي..

ارتفع إحساسه مع واجبات الحكم ومع تضخم مسؤولياته، تعامل مع الأنظمة العربية المختلفة بشعور المسؤولية الجماعية، وكان تقدير الرئيس عبد الناصر له واضحاً في نصيحته للبعثيين في العراق بالتعامل مع الشيخ صباح وكسبه لمصلحتهم.

كان الشيخ صباح عروبي الهوى، مشجعاً المبادرين، لا يرتاح للتردد، ويحترم أهل الفكر، ويستوعب بسهولة ما يأتي جديداً في المواقف الدولية، ولا يرتاح للتحالفات والاستقطابات، ولهذا كانت جميع مبادراته «جمع الشمل».

وركز على قضية فلسطين، فأشغلت حيزاً كبيراً في فكره وجهده، ومن أجلها تنقل إلى مواقع غير آمنة، واتخذ قرارات فيها التزامات على الكويت وخلق ألفة بينه وبين قيادة المنظمة لم تصمد بعد قرار عرفات بمجاملة الغزو ضد الكويت، ومع ذلك لم يضعف حماسه للقضية، وأعاد العلاقات مع الذين وقفوا سلبياً ضد الكويت وتسامح معهم في جو شعبي كويتي غير مهيأ للتساهل، لكنه بإيمانه بالمستقبل وقراءته لبوادر الانكسار الثوري العربي، أعاد اللحمة مع الأردن ومع السودان واليمن ومع القذافي وتعامل مع أبومازن الذي خلف عرفات وقبل بسفارة فلسطينية في الكويت، وحافظ على نغمة الكويت تجاه المساعي الدولية وما يطرح منها من حلول.

كسب الزعامة السياسية بالمبادرات البناءة، وكسب الزعامة التنموية بالعطاء السخي للمستحق، وحزنت عليه الشعوب لرسالته الإنسانية الشاملة.. عاش زعيماً وتوفي في وهج الزعامة.

ذهبت معه إلى موسكو في أبريل 1981، يشرح مجلس التعاون القادم، حريصاً على كسب دعم الاتحاد السوفيتي، تحاشياً للتعقيدات، وكانت ثقة موسكو به مبنية على متابعة لمواقف الكويت.

وأعطى مجلس التعاون رعاية خاصة بعد الخلاف الأخير والمؤسف اشتداد المرض حرمه من وضع نهاية سعيدة لهذا التباعد..

رحم الله الشيخ صباح الأحمد، تعلمت منه الكثير، وتابعت مسيرته، وكان آخر لقاء معه يوم الجمعة الذي انتقل فيه إلى المستشفى ومنه إلى الخارج.

أمير البر والإحسان، ساهم في حصاد الثمار من بنية الخير التي زرعها حكام الكويت..