لا يفضّل الكبار الثرثرة، وكثرة الظهور، إنَّما يختارون الوقت الملائم لقول ما لديهم، وحين يتحدثون تصغي لهم الأسماع، وتنشدُّ لهم الأبصار. لذلك عُرف عن قادة السعودية الكبار ومنهم الأمير بندر بن سلطان الدقة في اختيار موعد الحديث، كما يروي عنه السفير أسامة نقلي، وحين اختار الأمير تخصيص حديثه عن مواقف السعودية تجاه فلسطين ضمن سلسلة: «مع بندر» على شاشة «العربية» كان يغلي من الداخل، وآمن بضرورة قول الحقيقة وفتح ما أمكن من الملفات، لقد طفح الكيل.
والأمير معروف بعمله في الظل؛ فهو رجل المهمات الصعبة والملفات المركبة والمدفعية الثقيلة في يد الملوك السعوديين على مدى أربعة عقود وأزيد. والناس تتطلع إلى ما سيقوله، على سبيل المثال حين طبعت النسخة العربية (يوليو/تموز 2010) من كتاب صديقه ويليام سيمبسون: «الأمير» الذي يتناول بعض مسيرة بندر، ذهبت لاقتناء الكتاب من مكتبة ببيروت، بعض من أقبل على الكتاب بحسب نقاشاتهم كانوا ضد السعودية ومشروعها، لكن السّر وراء القراءة لبندر معرفتهم أنه رجل فولاذي، إذا أمسك بملف يعرف كيف ينهيه، ويصل به إلى المراد، يعلم حتى الأعداء ما هي الأمور التي اضطلع بها الأمير.
ذكّر الأمير بالسعوديين في حديثه عن السعوديين الذين شاركوا في القتال مع الفلسطينيين، ليقرأ العرب ما كتبه فهد المارك عن فلسطين وهو من المقربين للملك عبد العزيز، وممن قاتل عام 1948 ومن الدبلوماسيين الذين وثق بهم الملك، وهو مؤلف الكتاب الشهير: «من شيم الملك عبد العزيز»، طبع عام 1978، وقد كتب عنه الأستاذ بدر الخريف في هذه الجريدة تقريراً بعنوان: «طولكرم تتذكر فهد المارك... المحارب السعودي للدفاع عن فلسطين - شارك مع جيش الإنقاذ بأمر من الملك عبد العزيز... وألَّف كتاباً عن التجربة»، ومما قاله للتذكير: «حضور هذا الرجل وتسجيل اسمه في ذكرى الخالدين كان كبيراً في دعم قضية فلسطين وعندما رحل عام 1978، دفع الكثير من الزعماء والساسة إلى تخليده بكلمات صادقة تعبر عن واقع الرجل، وما ترك لوطنه وأمته العربية من سمعة طيبة، محارباً ومنافحاً بقلمه، ومن خلال عمله الدبلوماسي؛ وهو ما دفع الملك سلمان بن عبد العزيز إلى القول عنه: «يعد الأستاذ فهد المارك من رجال الملك عبد العزيز المخلصين له ولبلاده، وقدَّم جهوداً طيبة لخدمة وطنه وقضايا أمتيه العربية والإسلامية، متبعاً في ذلك توجيهات قادة بلاده ومترسماً منهجهم وسياستهم». وقد أمر الملك سلمان قبل 27 عاماً بإطلاق شارع باسم فهد المارك محاذياً لقصر الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، كما وصف الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات المارك بـ«المجاهد الكبير، ورجل من رجالات أمتنا العربية، ونصير كبير ومخلص للثورة الفلسطينية». هذا مثال واحد من آلاف النماذج.
لا بد من تذكير الفلسطينيين بأن الأموال التي تلقاها قادتهم لدعم قضيتهم من السعودية عبر تاريخها بمئات المليارات، كانت كفيلة بأن تبني للفلسطينيين المدن الخارقة، لكنهم بهذه الأموال اشتروا لأنفسهم ولأولادهم ولأحفادهم الطائرات الخاصة، والأبراج الفارهة في أوروبا وأميركا، تركوا الناس للأرض والعراء، إن فلسطين بالنسبة للقادة مجرد مشروع استثماري يدر أرباحاً هائلة؛ ولذلك فإن الحديث عن ضرورة وجود قيادات سياسية فاعلة وبديلة يصيبهم بالهلع، إنك بهذا الحديث تحرمهم من نبعٍ لا ينضب.
حديث الأمير يشرح نفسه، الوضوح والمباشرة، الصراحة والدقة، كلها تبيّن مستوى التحمل الذي لاقته القيادة السعودية من بعض القادة الفلسطينيين، منذ زمن تحدث الأمير عن مستوى تحمله هو وبقية المسؤولين لفجاجة أولئك، مما ذكره سمبسون عندما تناول رفض عرفات الذي تقدم به كلينتون – باراك، قال بندر «في ذلك السياق شعرت بألمٍ شديد على الصعيدين العاطفي والفكري بطريقة لا يمكنني تصديقها لو كنت زعيم القبيلة أو الأمة الفلانية، وأهتم لشعبي فعلاً وعُرض عليّ ما عرضه كلينتون وباراك على عرفات، لكان يجب أن يكون لدي سبب وجيه جداً لأرفضه، وما زلت بعد مرور خمس سنوات لا أستطيع العثور على ذلك السبب، إذا أردت جواباً صادقاً استناداً إلى ما أعتقده، لا أعرف، لكن لا يسعني الحكم على عرفات استناداً إلى طريقة تفكيري، بل عليّ الحكم على عرفات استناداً إلى الطريقة التي أعتقد أنه يفكر بها».
يضيف «أعتقد أن مشكلة عرفات الكبيرة هي أنه لم يستطع إتمام الانتقال من القائد الثوري، إلى رجل الدولة، وكلما وصل إلى تلك النقطة تراجع، الثوري هو شخص يقاتل من أجل الثورة، ورجل الدولة هو الذي يقول الثورة انتهت، الآن أنا المسؤول وعليّ أن أنجز الانتقال من ثوري إلى زعيم عالمي». (الأمير: 310). هذا فضلاً عن المزايدات، ينتقد بندر في كتابه أحد الأمناء العامين للجامعة العربية في فترة مضت إبان مؤتمر مدريد، حين أكثر ذلك الأمين من الثرثرة بالشعارات يروي السفير إدوارد جيرجيان أن بندر علق قائلاً «بدأ يصعّب الأمور علينا، ففيما كنا نحاول الوصول إلى جوهر الموضوع، أصر على تقديم انتقاداتٍ قومية، فقد كان يريد أن يدوّن سجله أنه قال أشياء معينة».
يعلم الجميع أن مشكلة إدارة قضية فلسطين كانت ولا تزال كبيرة، باتت القضية مثل بحيرة مقدسة يغطس فيها كلُّ من التاث بالدنس، أما من يهم بارتكاب مجازر دموية فيعبّد طريقه إلى القتل بشعار القدس، ومن تعثر انتخابياً وشعبياً سرعان ما زعق على المساكين بأهازيج القضية وأناشيدها.
إنَّ حديث بندر جرس إنذار؛ فالأمور تتحول، ومن أراد الحل فليسعَ إلى طرقه، أما المكوث على الأطلال والبكاء على اللبن المسكوب فلن يعيد للمظلوم حقه، وهذه سنة التدافع البشري.