يشكل عنصر الحرية في التمثّلات الإبداعية، الحجر الأساس في فعل التخييل، إذ بدون حرية يظل المنتَج الإبداعي محصوراً في دائرة الواقع الموضوعي، كما تريده مختلف السلط المتعالية كالسياسة والمجتمع والدين.. وربما كان فعل الحرية وراء المعضلات الكبرى المرتبطة بالمصادرات، والقمع الفني الذي يصل أحياناً حد السجن أو الاغتيال.

للأسف معظم الدراسات بما فيها الأجنبية لم تنبه إلى الرابط الوشيج، الذي يجمع بين القدرة على التخييل والإبداع وعنصر الحرية، فمجتمع مقيد يكون تخييله المعلن على الأقل، وليس الباطني، مقيداً أيضاً، السياقات التربوية في الأسرة والمجتمع، والثقافة الجمعية المهيمنة، تحد كلها من هذه الحرية وتهيكلها بحيث تستجيب للمعطى الاجتماعي، والديكتاتوريات العالمية لا تفعل في النهاية أكثر من هذا: مصادرة التخييل، طبعاً، يستطيع فنان كبير وذكي، أن يجد التمثُّلات المختلفة والمعبرة عن شرطيته المقهورة باختراق المنع بالتخييل، الذي يغرق الحقيقة في سلسلة من الاجتهادات الفنية لا يفهمها إلا من يشعر بعمقها، ويقدم بذلك نماذج تخييلية متعالية على المجتمع بكل ضغوطاته، وذلك يحتاج إلى موهبة خارقة تستطيع أن تجعل من التخييل وسيلتها للتمويه والنقد، تجمع كل الشظايا المجتمعية وإعادة تركيبها من أجل منتج ثقافي مميز، لنا في «ألف ليلة وليلة» تعبير حقيقي عن هذا التخييل المتسع والكبير الذي لولاه لما أصبح النص خالداً.

الذي تخيل وأبدع نص ألف ليلة وليلة لم يكن مجرداً من الفعل الثقافي والحضاري، كان ممتلئاً بعصره وربما هذا ما جعل من هذا النص مرجعاً دائماً للثقافة الجمعية، وإن ركزت عقلية المنع على الحرية الجنسية في النص، فأطلقت عليه نار الرقابة، مع أنه عنصر جزئي فقط، فقد كبر هذا النص في عالم التخييل الذي وفرته ثقافة العصر ومنحته فرصة الاستدامة والتنوع والغنى، فقد كان المؤلف (أو المؤلفون) عارفاً بالتاريخ وبحيثياته، وإلا ما استند جزئياً على هذه المادة الغنية التي عرفتنا بجزء مهم من التاريخ العربي، وكان المؤلف مطلعاً أيضاً على ثقافات الشعوب في قصصها الخرافية وحكاياتها، العربية والهندية والفارسية وغيرها، وإلا ما أبدع في قصص الجان وصراعها مع البشر، كان مشبّعاً بالحب والحضور النسوي في العملية التخييلية، وإلا ما عرفنا تلك اللحظات السامقة في الحب بين العاشق والمعشوق، مدركاً لبشاعة مجتمع القنانة والعبودية، بحيث يُقتل العبد بلا قانون ولا عدالة، كان المؤلف مطلعاً على أنظمة الحكم وقتها التي تسمح للسلطان بأن يزهق أرواح كل مخالفيه دون أدنى اعتبار، ذهب المؤلف بعيداً في تصوير الشمولية القاهرة، إذ كيف لحاكم أن يقرر مصير الرعية النسوية، بسبب خيانة زوجية تتحملها امرأة واحدة وليس كل النساء؟

يقرر الحاكم شهريار، ووفق خيال مريض، إعدام كل امرأة يقضي معها الليلة الأولى، لهذا استعملت شهرزاد كل قدراتها التخييلية للارتقاء بدفاعها الإنساني بالحكاية واللغة، كان على شهرزاد أن تغادر عالمها اليومي المرعب نحو عالم أوسع تستطيع به، ردع قوة الطاغية، لهذا لم يرتقِ النص نحو الذاكرة الجمعية الإنسانية إلا بفعل التمثل الذكي والغني، والحرية.