بالتأكيد ستتعقّد الأزمات الاقتصادية في المستقبل القريب، وستعرف المجتمعات حالات رهيبة من التوتّر والشكوك المركّبة، التي ستجعل من الفرد يعيش انفصالات كبرى عن الجماعة وعن ذاته حتى، ما يؤشر إلى حدوث وشيك لانهيارات كثيرة في المجتمعات وعلى سقوط دول شتى، وهناك وعي لدى بعض القادة أن القطع مع الشعارات التقليدية بات أمراً مستعجلاً، لذلك بادروا وفق حسّهم السياسي وكل بطريقته التي استوجبتها الخصوصية المجتمعية إلى ابتكار مبادرات لتطويق السيناريوهات الكارثية، ولا يمكن لهذه المبادرات أن تكون ناجعة إلا بإبداع أسلوب مختلف وطارئ يقوم على الواقعية والإنجازية والنأي عن اجترار التشخيص المملّ.

ولو أخذنا خطاب ملك المغرب بمناسبة الدورة الأولى من السنة التشريعية الخامسة يوم الجمعة الماضي، سنلحظ أنه صادر عن تمثل واعٍ لهذه المبادرات بنفس محلّي مغربي ينطلق من طبيعة أزمة الاقتصاد الوطني والتشغيل، والسياق العام المتمثّل في الواقع الصحي العالمي، وشلل الفاعل الحكومي والحزبي في إبداع أيّ مقترح يدخل ضمن الحلول الممكنة لتطويق الأزمة، والحدّ من تفاقمها.

لذلك، جاءت مبادرة الملك لسدّ هذا العجز بتأكيده على إطلاق ما أسماه «خطة طموحة لإنعاش الاقتصاد ومشروعاً كبيراً لتعميم التغطية الاجتماعية»، وتجاوزاً لأيّ تسييس للشعار الاقتصادي والاجتماعي أعلن عن رصد 15 مليار درهم لصندوق الاستثمار الاستراتيجي من ميزانية الدولة لتأهيل الاقتصاد وحفز الشركاء المغاربة والدوليين على بناء مشاريع استثمارية تنسجم مع خطة الإنعاش.

وتكمن قوة هذه المبادرة في خطواتها التي جعلت من مضمون الخطاب خريطة طريق مدقّقة لا تحتمل أي تضييع للوقت في الجدل الحزبي العقيم، وفي الأساليب العتيقة التي تنجز بها السياسة، ولترصيد هذه المبادرة انتبه الخطاب إلى المسألة الاجتماعية التي كانت تستغل في السابق انتخابياً، بإطلاق مشروع وطني كبير يتمثل في التغطية الاجتماعية لجميع المغاربة.

لكن اللافت في هذا الخطاب، وهو يلحّ على اعتماد مبادئ الحوكمة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة، هو دعوته إلى مراجعة عميقة لمعايير ومساطر التعيين في المناصب العليا وإنصاف الكفاءات الوطنية، قد تبدو هذه الإشارة عابرة وبسيطة ولكنها مفصلية في أي مبادرة لتحقيق النمو وخلق حافزية مجتمعية تقوم على الرغبة في البناء المشترك وتقوية رمزية المؤسسات.

ولا يمكن أن نتصور دولة ومجتمعاً منسجمين في ظل سيادة الرداءة وتناسخها ضداً على الكفاءة، ولا يمكن أن يكون فعل تمييع المسؤولية من داخل مؤسسات الدولة، ومؤسسة الأمانات العامة للأحزاب، بإسناد المسؤوليات لغير أهلها نتاجاً إيجابياً في ترسيخ الثقة في الإدارة والأحزاب، بل يعمل على ترسيخ قيمة الشك والعبث والاستهتار بأي شيء اسمه المواطنة، لأن تمييع المسؤولية ليس نكراناً لقيمة الاعتراف فقط، بل دحضاً لمشروعية الاجتهاد والتفوّق والابتكار، وهنا تكمن خطورة الاعتبارات السياسية والتكتيكية في تعيين الشعوبيين والظرفاء في مناصب المسؤولية، لأنها بكلمة واحدة قصيرة النظر، هكذا ينبغي أن تُلتقط إشارة الملك.