مساء الخميس الموافق ثامن أيام أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، زقزق فجأة حساب مانويل ماكرون، الرئيس الفرنسي، عبر موقع «تويتر»، فغرد معلناً البشرى التالية: «صوفي بترونين حرة. إطلاق سراحها مصدر ارتياح كبير لعائلتها، وأقاربها. أبعث برسالة تعاطف إلى السلطات في دولة مالي شكراً. الحرب على الإرهاب في منطقة الساحل مستمرة». اليوم التالي، فاجأ الرئيس الفرنسي القائمين على شؤون قصر الإليزيه بتجاوز قيود البروتوكول، بأن حرص على استقبال السيدة بترونين بنفسه في المطار، لحظة وصولها عائدة من ظلمات أسر الاختطاف قبل أربع سنوات إلى عاصمة النور. تصرف رئاسي راق، بلا جدال. غير أن السيدة بترونين أقدمت، من جهتها، على تصرف فتح المجال - كما أتخيل - لكي يغص السيد ماكرون في الحَلق، ثم يبتلع ما يجوز عده نوعاً من «الإهانة»، إذ الأرجح أن القصد هو تجنب إفساد عرس الفرح بعودة مواطنته، التي غيرت اسمها من صوفي إلى مريم، بعد اعتناقها الإسلام، والتي اعتذرت، بلباقة طبعاً، عن مد يدها كي تصافح يد رئيس بلدها الممدودة باتجاهها.
عصر الجمعة التالية (10/16) صُدِمت باريس، بل الأصح فرنسا كلها، ومعها العالم بالطبع، بإقدام شاب مسلم على جريمة قطع رأس رجل. عُلم فيما بعد أن القتيل الذي يُدعى صامويل باتي، لم يتجاوز السابعة والأربعين عاماً، وهو يعلم التلاميذ مادتي التاريخ والجغرافيا. أما الذي أقدم على جُرم القتل، والذي قُتل لاحقاً برصاص الشرطة، فيدعى عبد الله أنزوروف، وهو لاجئ روسي من أصل شيشاني، ولم يزل في الثامنة عشرة من العمر. لماذا؟ هيا نفتح الملف من جديد. وهل فُتح كثيراً من قبل؟ اسألوا تواريخ الأمس القريب. كم مرة، تحديداً منذ جرائم الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001. قيل إن نتاج تطرف الفكر لن يكون سوى التطرف الأفظع من كل ما هو مُتوقع، أو متخيل؟ عشرات، ربما مئات، احتمال آلاف المرات؟ نعم، بل أكثر.
ليس مِن تبرير يجيز لأحد أن يجز رأس بشر، لمجرد اختلاف في العقيدة، أو تباين الرأي حول حدود حرية التعبير، حتى إذا اشتد الخلاف بين المفاهيم بشأن مدى الضرر الذي يمس الحرية ذاتها، عندما تُوظف في سياق إيذاء أحاسيس الآخر، أو إلحاق أذى بدين قوم من الناس. وقائع تواريخ الأمس القريب تقول بوضوح إن عواصف تيارات التطرف المُتبادل لم تهدأ أبداً، منذ تفتق خيال كورت فيسترجارد، رسام الكاريكاتير الدنماركي، قبل خمسة عشر عاماً عن تلك الرسوم سيئة الصيت، بل عديمة الذوق الإبداعي أيضاً، التي نشرتها أولاً صحيفة «يلاندس بوستن» بتاريخ 2005/9/30. ثم أعادت نشرها، بعد عام، من منطلق التحدي، مجلة «شارلي إيبدو» الفرنسية، فتعرضت لهجوم إرهابي (2015/1/7) أوقع عدداً من القتلى في صفوف طاقمها. أكثر من ذلك، كيف لتلك العواصف أن تهدأ بينما يزداد صب الوقود على نيران تطرف تشتعل في ضفتين؛ إسلامية تزداد شططاً في الانغلاق على نفسها، وغربية، منها الفرنسية، تمعن في تحدي خصومها، وإلا ما معنى أن تقرر هيئة تحرير «شارلي إيبدو» الشهر الماضي إعادة نشر الرسوم ذاتها من جديد؟
هل في ذلك ما يبرر شن أي هجوم إرهابي يستهدف المدنيين، أفراداً أو جماعات، بدعوى الانتقام ممن أساء إلى الإسلام، ديناً، أو نبياً، فآذى أحاسيس بشر مسلمين؟ كلا، على الإطلاق. الحق أن أحداً لم يؤذَ على طريق توصيل رسالة السماء، قدر ما أوذي الأنبياء والرسل أنفسهم. ألا تعجب إذ تتأمل كم صبر كل نبي ورسول على ما لاقى من الشدائد بين بني قومه قبل غيرهم، فيما ترى سرعة نزق الزاعمين أنهم «غيارى» على الدين؟ بلى. لكنك سوف تعجب كذلك إزاء إصرار أناس يُفترض أنهم حكماء أهلهم، مثل بعض مسؤولي التعليم في الدنمارك، على إذكاء أحاسيس الغضب، بإدراج رسوم كورت فيسترجارد ضمن مناهج التلاميذ. هل من تفسير؟ فاجأني صديق هاتفني للاطمئنان في ضوء تشديد إجراءات الإغلاق بسبب فيروس «كورونا»، فلما شكوت حيرتي مما يجري، سواء بزعم الدفاع عن حرية الرسم والتعبير، أو بدعوى دفع الأذى عن الإسلام فوجئت برده: دع عنك كل ذلك الهم، إن ما يحصل ليس سوى «مؤامرة» من صنع «حكومة خفية» تدير العالم من وراء ستار. قلت: حتى وباء «كوفيد - 19»؟ أجاب: نعم، بكل تأكيد. حقاً، أليس لله في خلقه شؤون؟ بلى.