ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآياتٍ لقومْ يتفكرون) الآية 21 من سورة الروم. كثيراً ما قرأنا هذه الآية على بطاقات الدعوة لحفلات الزواج، وأصبحت في أذهاننا جرسا يُقرع بأنغام السعادة المرتبطة بالأفراح.

قبل فترة ليست ببعيدة شهدت حواراً بين مجموعة من الشباب والشابات البالغين سن الزواج عن المؤسسة الزوجية استشعرت منها عدم الثقة فيها، بناء على قربهم من تجارب زوجية لبعض معارفهم عانت فيها المرأة من أضرار مختلفة أهمها ضياع حقوقها المالية بسبب الموانع الأدبية بين الزوجين، الأمر الذي أشعرني بخطر يتهدد الفكر الشبابي تجاه العزوف عن فكرة الزواج، ومن منطلق تجربتي كمحامية فقد ألهمني ذاك الحوار بفكرة كتابة هذا المقال عن ذمة المرأة المالية في المؤسسة الزوجية، فموضوع المقال هو عن جزئية تتعلق بأموال الزوجة الخاصة الذي تتشعب مواضيعها كثيراً، وليس عن الإنفاق كواجب شرعي على الزوج.

إذ يُعتبر الزواج وتكوين الأسرة هو اللبنة الأولى في بناء المجتمعات البشرية، والأسرة وفقا لنص الفقرتين (1 و2) من المادة (23) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية هي الوحدة الجماعية الطبيعية والأساسية في المجتمع، ولها حق التمتع بحماية المجتمع والدولة، ويكون للرجل والمرأة ابتداء من بلوغ سن الزواج حق معترف به في التزوج وتأسيس أسرة، وهي وفقاً للفقرة الأولى من المادة (5) من دستور مملكة البحرين المعدل 2002 (أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق وحب الوطن، يحفظ القانون كيانها الشرعي)، فالزواج هو الخطوة الأولى لتأسيس الأسرة التي تُمثّل الاستقرار وتُعدّ مصدر السكينة والمودة والرحمة وتقوم على التفاهم والتعاون والعطاء المتبادل، القائم على التسامح وتقديم التنازلات المتقابلة في ظل المعرفة الحقّة بالحقوق والواجبات لطرفيها والموازنة بينها للوصول إلى المقاربة بين المصالح والأفكار التي كثيراً ما تكون متباينة بين البشر بطبيعتهم، بحكم الفروق الفردية المختلفة بين كل إنسان وآخر، وبالتالي فإن تكوين الأسرة يقتضي وعياً من طرفيه بذلك، باعتبار أن كل منهما قد نشأ في بيئة مختلفة ويمتلك شخصية مستقلة قد لا تتوافق مع شخصية شريكه، كما يقتضي أيضاً معرفة بحقوق الزوج والزوجة الشرعية التي أقرّتها الشريعة الإسلامية ونظّمها قانون الأسرة رقم (19) لسنة 2017 في المواد (38، 39، 40) منه، ومن أهمها العلم والوعي بمسألة الفصل بين الذمة المالية للزوج والذمة المالية للزوجة، فالزواج وفقاً للشريعة الإسلامية لا يعني اشتراك الزوجين في ذمة مالية واحدة، ولا يُلزم المرأة بالإفصاح عن ذمتها المالية لزوجها ولا يحقّ للزوج التعرض لأموالها الخاصة، ويكون لها حق التصرف فيها بالمعروف، فيما يلتزم الزوج بالإنفاق عليها باعتبار أن ذلك واجب عليه يفرضه الشرع والقانون تجاهها بغض النظر عن ملاءتها المالية.

وحيث إن واقع العلاقات الزوجية حالياً أثبت عكس ما سبق ذكره، فالتبعات المالية التي تقع على عاتق كثير من الزوجات كثيرة جداً، فلا تُحرم من الإنفاق عليها فقط بل يتم تحميل ذمتها المالية بديون تخصّ المؤسسة الزوجية، لأسباب كثيرة قد تعود إلى تسلط الرجل أحياناً (كما يحدث في بعض الحالات) وقد يكون بسبب المرأة نفسها، فالمرأة تُقبل على الحياة الزوجية باعتبارها شريكة في مؤسسة الزواج وتُقدِم في سبيل بنائها على البذل المادي لإنشاء منزل الزوجية والمساهمة في الإنفاق من باب إعانة الزوج على أعباء الحياة ونفقات الأبناء، وفي خضم ذلك تتنازل عن حقّها في نفقتها الواجبة عليه، وهو أمر قد ترتضيه طوعاً لا باعتباره واجباً عليها، فحيناً تسكت عنه بدافع الحب، وحيناً يكون حياءً وخجلاً من المطالبة بحقها وحيناً آخر يكون سكوتها خوفاً من سلطة الزوج، وهو قد يكون ذلك مقبولاً ما استمرت الحياة الزوجية واستقرت، ولكن ماذا لو حدث العكس؟ ماذا لو لم تستقر الحياة الزوجية وأصبحت مستحيلة؟ ماذا لو وقع الطلاق؟ وما هو مصير جميع ما أنفقته الزوجة؟

لقد سجّلت محاكم البحرين الشرعية 1890 حالة طلاق خلال سنة 2017، فيما سجلت 1929 حالة طلاق خلال عام 2018 «أخبار الخليج الأحد 24 فبراير 2019» و2023 حالة طلاق خلال عام 2019 (الأيام العدد 11371 الثلاثاء 26 مايو 2020)، ولا شك بأن نسبة من هذه الأعداد هن من الزوجات اللاتي تنازلن عن نفقاتهن طوعاً وحباً وكرامةً في ظل مبدأ الشراكة في المؤسسة الزوجية، كما أنفقن من مالهن الخاص لتجهيز وإعداد مسكن الزوجية عن طريق الديون والقروض البنكية وأنفقن للوفاء باحتياجاتهن الشخصية واحتياجات الأبناء من رواتبهن الشهرية، ولكن دون أن تمتلك أكثرهن أي مستند رسمي أو عرفي كدليل يثبت ذلك ويحفظ لها حقّها المادي المهدد بالضياع بوقوع الطلاق، وذلك بسبب وجود العلاقة الزوجية التي تُشكّل مانعا أدبيا يحول دونها ودون مطالبة الزوج بدليل كتابي يثبت حقها، إذ أن مثل هذه المطالبات قد تُعدّ مؤشرا على عدم الثقة مما قد يثير حفيظة الزوج ويولّد النفور بين الزوجين ويُخلّ بميزان المودّة وتنتفي معها حكمة السكن والسكينة والطمأنينة المرتبطة بالزواج، فالمعاملات المالية التي تتم بين الزوجين تتم في سرية تامة بينهما دون حضور شهود أو إثبات كتابي، فما هو الحل إذاً؟ كيف يمكن للمرأة أن تحفظ حقوقها المالية وإسهاماتها في بناء المؤسسة الزوجية؟

لقد كفلت التشريعات القانونية في مملكة البحرين هذه المسألة بإتاحة الإثبات بإحدى وسائل الإثبات التي قررها القانون رقم (14) لسنة 1996 بإصدار قانون الإثبات في المواد المدنية والتجارية، والتي تتمثل في توجيه اليمين الحاسمة التي تحسم هذا النزاع وفقاً لنص المادة (113) من القانون، أو بشهادة الشهود وفقاً لنص الفقرة (أ) من المادة ( 64) على أنه: ( يجوز الإثبات بشهادة الشهود فيما كان يجب إثباته بدليل كتابي إذا وجد مانع أدبي يحول دون الحصول على دليل كتابي)، استثناء من نص الفقرة الأولى من المادة (62) على أنه: (في غير المواد التجارية، إذا زادت قيمة التصرف القانوني على خمسمائة دينار أو كان غير محدد القيمة wفلا تجوز شهادة الشهود في إثبات وجوده أو انقضائه، ويكون إثباته بالكتابة، ما لم يوجد اتفاق أو نص يقضي بغير ذلك)، ولكن، كما أسلفنا فإن الإثبات بشهادة الشهود من الصعوبة بمكان بحكم طبيعة العلاقة الزوجية وأسرارها، أما اليمين الحاسمة فهي وسيلة إثبات قانونية تحكمها النوازع الدينية لدى من وُجهت إليه، وترتبط بالتقوى وخشية الله، وقد ترمي بها رياح الخصومة أحيانا في مهبّ المثل الشعبي لإخواننا المصريين (قالوا للحرامي إحلف، قال: جالك الفرج!) وبالتالي فإن ضياع حقوق الزوجة المالية سيكون هو المحصلة النهائية، فكم من امرأة تطلقت وذمتّها المالية مُثقلة بقروض مالية كبيرة اقترضتها من أجل المشاركة في بناء بيت الزوجية سواء برغبتها أو بطلب وإلحاحٍ من الزوج، وقد ذهب الزوج وبقي الدَيْن!!

الخلاصة أننا مع مبدأ التعاون بين الزوج والزوجة في بناء تفاصيل الحياة الزوجية، ولكننا أيضاً نجد أن مشاركة الزوجة المالية في الحياة الزوجية هو موضوع بحاجة إلى تنظيم قانوني واضح وصريح يحفظ حقوقها، وإلى عملية إعداد وتوعية إلزامية للمقبلين على الزواج بهذا الصدد، أسوة بفحص ما قبل الزواج.