منذ القدم استُخدِمَت العديد من الآلات لقياس وتتبع الوقت كالساعات الرملية والمائية والمسلات؛ أما الساعات الميكانيكية فبدأت تتطور تدريجياً بدءاً من القرن الرابع عشر، لكن ساعة اليد لم تكن بمتناول الجميع حتى القرن العشرين حين أصبحت الساعة جهازاً نسيطر عليها بين أيدينا وتسيطر على عقولنا في علاقتنا بالعالم خاصة العمل. خلال تلك الأزمنة إلى وقتنا الحاضر مرت علاقتنا بالوقت بمراحل متفاوتة..

قبل عصر الصناعة، كان النظام المحلي القديم الذي يسمى في الغرب «الإخراج» سائدًا، فمثلاً التاجر يسلم القماش إلى منزل العامل، ثم يدفع له أجره مقابل العناصر التي ينتجها، مما أعطى العاملين مرونة في وقت العمل. على خلاف ذلك، في المصنع بالقرن التاسع عشر يطلب المالك من العمال الحضور في وردية عمل محددة، ويتم الأجر وفقاً لعدد ساعات العمل وليس على أساس إنتاجهم المادي. آنذاك كان القليل من العمال يمتلك ساعة محمولة ولم تكن ساعات المنبه المنزلية رخيصة، فظهر أشخاص عُرِفوا باسم «المطرقة العليا» كانوا يجوبون الشوارع يقرعون الأبواب والنوافذ لإيقاظ العمال بالوقت المناسب. في وقت لاحق، استخدمت المصانع الصافرات والإشارات لإعلان بداية ونهاية المناوبات، وكان الموظفون يدخلون ويخرجون باستخدام ساعة الحائط (مجلة إيكونيميست).

الالتزام الصارم بوقت معين لبدء العمل ونهايته (بيان توقيع للحضور والانصراف) غير علاقتنا بالوقت والإنتاجية، فحتى وصول جائحة كورونا كان أغلب النشاطات الأساسية كالمدارس، والدوائر الحكومية، والمصانع، والمستشفيات، والشركات تفتح وتغلق في توقيت متزامن مما أدى إلى ساعات الذروة اليومية والازدحام، حيث يتجه الملايين من وإلى العمل.

أتى كورونا وغيَّر العمل المكتبي الذي نعرفه من خلال انتشار نمط العمل عن بُعد والعمل بالمنزل، وقام العاملون بتحويل كراسيهم وطاولاتهم وغرفهم الاحتياطية إلى مكاتب. «بعد تلك الدوامة الأولية، اكتشفنا أن الحياة المكتبية العالقة في روتين من 9 إلى 5 لعقود، لم تعد تخدم العمال أو الشركات». وفقاً لمقدمة دراسة استطلاعات متنوعة، شملت أحدها تسعة آلاف عامل بمجال المعرفة من المنزل في ستة بلدان بأحدث أبحاث لشركة سلاك Slack، والتي توضح أن الناس في جميع أنحاء العالم يريدون المزيد من المرونة في مكان عملهم؛ وتنصح أنه بدلاً من مجرد العودة إلى الروتين القديم، ينبغي على الشركات إعادة التفكير جذريًا في طريقة عمل الفرق لرفع كفاءة الإنتاج.

يوضح هذا الاستطلاع كيفية القيام بذلك. أهم نتائجه أن الناس يفضلون الاختيار؛ فأغلبية العاملين الذين شملهم الاستطلاع (72 %) يفضلون مزيجًا من العمل عن بُعد والعمل المكتبي. أما البقية فهم ينقسمون بالتساوي بين تفضيل إما العمل من المكتب أو من المنزل. وقد شعر أغلبية العاملين عن بُعد بالتوازن بين العمل والحياة، مع انخفاض التوتر، ومستويات إنتاجية أعلى ورضا عام في العمل عن بُعد مقارنةً بالعمل المكتبي. كما سجل العمال درجات أعلى في الشعور «بالانتماء» إلى مؤسستهم من أولئك الذين يعملون بالمكتب بجدول من التاسعة إلى الخامسة.

لكن لم يكن الجميع راضياً، إذ تختلف تجربة العمل عن بعد باختلاف الأدوار الوظيفية والجنس والأقدمية وعوامل أخرى. على سبيل المثال، يميل الموظفون المتمرسون عن بُعد إلى الإبلاغ عن مستويات أعلى من الرضا والإنتاجية مقارنة بأقرانهم الأقل خبرة. في أمريكا، كان الموظفون السود والآسيويون والإسبان أكثر حماسة من زملائهم البيض للعمل من المنزل، فيما أظهرت النساء اللواتي لديهن أطفال حماساً بشكل عام، حيث أبلغن عن تحسن في التوازن بين العمل وحياتهن الخاصة.

وتنبه الدراسة إلى أن العلاقات مهمة، فالاتصال هو التحدي الأكبر للعمل عن بعد. يتضمن ذلك كلاً من الاتصالات اللوجستية، مثل شبكة واي فاي، والعلاقات التي تجعلنا نشارك وننتج في العمل. وتختم الدراسة توصيتها بأنه حان الوقت للعمل بشكل مختلف، من خلال الاستثمار في مكتب افتراضي وأدوات اتصال غير متزامنة وجداول عمل أكثر مرونة، تُمكن الشركات من تعزيز إنتاجية العمال ورضاهم.

قلة من الناس لديهم القدرة على التركيز بقوة لمدة ثماني ساعات مستمرة، فهناك فترات يميل فيها الناس إلى التحديق من النافذة أو الذهاب في نزهة على الأقدام؛ قد يجدون فيها الإلهام أو يعيدون شحن أنفسهم للمهمة التالية. عندما يفعلون ذلك في المكتب، فقد يغضب رؤساؤهم؛ بينما في المنزل، يمكنهم القيام بذلك فيعملون ولديهم دوافع أكبر. بالطبع العمل عن بعد ليس ممكناً للجميع. هناك قائمة طويلة من الأعمال، من خدمات الطوارئ إلى السياحة والبيع بالتجزئة، يحتاج الناس فيها إلى التواجد في مكان عملهم. أما بالنسبة للعديد من العاملين في المكاتب، فإن العمل عن بعد أمر معقول تمامًا، وقد يحتفظون ببعض الحضور خلال الأسبوع (مثل اجتماعات الموظفين).

ومثل كل تنظيم جديد فثمة سلبيات في العمل من المنزل: فقد يفقد الناس الفصل بين العمل والحياة المنزلية، ويخضعون للتوتر. إلا أنه يمكن للشركات تبني نموذج خليط يذهب فيه العمال إلى المكتب لجزء من الأسبوع لإدخال بعض الاتصال البشري. لكن التحرر العام للعاملين من المكاتب ونير الوقت الصارم أمر مرحب به. كانت الساعة سيدًا قاسيًا وسيسعد الكثير من الناس بالهروب من سيطرتها (إيكونيميست).