ستبقى قرارات القيادات العالمية معلّقة الى حين وضوح ما إذا كان دونالد ترامب أو جو بايدن هو الرئيس الأميركي للسنوات الأربع المقبلة لأسباب تختلف من دولة الى أخرى.

المعسكر الذي تشوّق الى رئاسة بايدن تتصدره الصين وإيران وفنزويلا وكذلك جزء مهم من الدول الأوروبية التي وجدت في رئاسة ترامب ارتجاليةً هزَّت حلف شمال الأطلسي. الدول الخليجية العربية ومصر ارتاحت لقيام ترامب بإعادة عقارب reset العلاقات الأميركية مع الحلفاء العرب التقليديين الى ما كانت عليه قبل انقلاب الرئيس الأسبق باراك أوباما على تلك العلاقات لصالح كل من إيران وتركيا، مشجّعاً بذلك أنماط فرض الدين على الدولة. إسرائيل مدلّلة مع أي رئيس أميركي وقادتها حريصون على مبدأ خذ وطالب مع أية إدارة كانت. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لا ينسى فضل أوباما ونائب رئيسه جو بايدن ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون عندما دعموا مشروع "الإخوان المسلمين" لصعودهم الى السلطة في شمال أفريقيا، من تونس الى مصر الى ليبيا، لكنه أيضاً تمتّع بعلاقة شخصية مع دونالد ترامب أنقذته أكثر من مرة حتى عندما حاول أن يلعب الورقة الروسية عبر صفقة شراء منظومة "S-400" أو من خلال علاقات شخصية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تدهورت في الآونة الأخيرة.

الرئيس الروسي من جهته فضّل رئاسة ترامب على رئاسة بايدن التي ينظر اليها الروس بأنها خطرة عليهم لأسباب تمتد من سياسات تتعلق بحلف الناتو الى إفرازات رفع العقوبات عن إيران في السوق النفطية وعلى أسعار النفط، الى التخوّف من انتقام الديموقراطيين بتهمة تورّط روسيا في الانتخابات الرئاسية الأميركية لصالح ترامب ضد كلينتون.

كل هذه القيادات تبني درجة كبيرة من سياساتها على شخصية الرئيس في البيت الأبيض لكنها تعي أيضاً أن قيادة الولايات المتحدة لا تقتصر على شخصية الرئيس والسلطة التنفيذية، بل إن للسلطة التشريعية أيضاً وزناً لا يستهان به في صنع السياسة الخارجية الأميركية. ثم هناك المؤسسة establishment التي تمتد من "الدولة العميقة" الى رجال المال في "وول ستريت" الذين شكّلوا مفاجأة لافتة في هذه الانتخابات بانحرافهم عن تقليد تحبيذ الحزب الجمهوري، فدعمت أكثريتهم بايدن والحزب الديموقراطي لأسباب تمتد من سياسات ترامب نحو الصين الى التوتّر الذي يرافق شخصيته وتأثير ذلك في الأسواق المالية.

لماذا ترتاح الجمهورية الإسلامية الإيرانية الى رئاسة بايدن أكثر من رئاسة ترامب؟ الإجابة هي في أحرف JCPOA أي الاتفاقية النووية مع إيران التي وضعها باراك أوباما في طليعة أولوياته بكلفة باهظة شملت التخلّي المتعمّد عن سوريا وتركها بين الأنياب الإيرانية والروسية والتركية، والتظاهر بعدم مشاهدة المجازر، والتراجع عن إنذارات الخط الأحمر.
فريق بايدن - الذي كان شريكاً لأوباما في المأساة السورية - أبلغ طهران أن في حال فوز جو بايدن بالانتخابات، سيعود تلقائياً الى اتفاقية JCPOA ويمحو انقلاب ترامب عليها والانسحاب منها. رأي هذا الفريق هو أن أسهل وأسرع الإنجازات الممكنة في نطاق السياسة الخارجية الأميركية هو انتشال الاتفاقية النووية مع إيران. رأيه أن "ضربة المعلم" هذه ستعيد المياه الى مجاريها مع الدول الأوروبية التي عارضت تمزيق ترامب لتلك الاتفاقية. المشكلة في هذا الطرح تكمن أولاً في كيفية إعادة التفاوض مع طهران طبقاً لتصوّر فريق بايدن، أي بما يشمل طرح مسألة الصواريخ الباليستية ومسألة التوسّع الإيراني في سوريا ولبنان والعراق واليمن؟ وثانياً، كيف سيكون في الإمكان رفع أو تخفيف العقوبات المفروضة على إيران في ظل تشريعات للكونغرس، كما في ظل مجلس شيوخ يسيطر عليه الجمهوريون؟

ما يهم إيران هو وقف هطول العقوبات التي ربطتها إدارة ترامب بدعوتها الى طهران للتفاوض على اتفاقية نووية جديدة تعالج العطب بما فيه مسألة الصواريخ والسلوك الإقليمي لـ"الحرس الثوري" الإيراني الذي صنّفته "إرهابياً". مجرد التفكير في صفوف بايدن بالعودة الى الصفقة النووية من دون التمعّن بما سيستطيع القيام به إزاء العقوبات وتصنيف "الحرس الثوري" والقوانين التي تبنّاها الكونغرس، يطيب لطهران، مهما كانت الصعوبات أو العراقيل. فللجمهورية الإسلامية الإيرانية، أن التخلص من دونالد ترامب هو هدفها الأول، وهي تعتقد أن رهانها على "الصبر الاستراتيجي" ناجح بمجيء جو بايدن الى الرئاسة.

كذلك الصين، الرفيق الشيوعي للجمهورية الإسلامية الإيرانية، فإنها رأت في إلحاق الهزيمة بدونالد ترامب هدفاً استراتيجياً لمصلحة الحزب الشيوعي الحاكم ووجدت في جو بايدن "رفيقاً" ناعماً نظراً لما يعكسه انتخاب مرشح الحزب الديموقراطي للرئاسة. فهذا الحزب بات اليوم في أغرب مراحل هويته لأنه اشتراكي وليبرالي النكهة لكنه في الوقت ذاته مدعوم من رأسماليّي أميركا ورجال "وول ستريت".

أحد أسباب معارضة "وول ستريت" لإعادة انتخاب ترامب هو المخاوف من انعكاسات حزم وعزم ترامب على مواجهة الصين تجارياً وتنافسياً وعقائدياً لما لذلك من تداعيات على كبار الشركات العابرة للقارات. في البدء كان هناك شبه اجماع أميركي على سياسة إيقاف استغلال الصين للموازين التجارية مع الولايات المتحدة. إنما هذا تغيّر بعدما تحوّلت العلاقة بين الرئيس الأميركي والرئيس الصيني شي جينبينغ الى مواجهة واستخدام ترامب تعبير كورونا - الصيني في إشارة مبطّنة تتهم الصين بمسؤولية انتشار الوباء. فرجال المال يهمهم المال وهم وجدوا في المواجهة العلنية مشروع خسارة مادية لهم. ثم هناك عنصر الاستفاقة يومياً على تغريدة للرئيس الأميركي تقلب الأسواق رأساً على عقب - الأمر الذي راق لرجال المال في مرحلة ما، ثم تعبوا وأرادوا الاستقرار.

دونالد ترامب قدّم الى الأميركيين معظم ما أرادوه، لكنه أرهقهم، فاستدعوا الرتابة. أخرج الولايات المتحدة من الحروب، وحرص على عدم عودة الجنود الأميركيين جثثاً، وقدّم الحماية الأميركية في مقابل أموال طائلة، وتحدّى ديكتاتورية أمثال رئيس فنزويلا هوغو تشافيز حيث أوقف روسيا والصين من الاستفادة هناك، وأطاح بالتسلط الصيني على الموازين التجارية مع أميركا، ولجأ الى العقوبات وسيلة ضغط لتغيير السلوك وليس للإطاحة بالأنظمة في إيران وروسيا والصين وكوريا الشمالية، ونقل الصراع العربي - الإسرائيلي الى مرتبة جديدة من خلال رعايته لاتفاقيات ابراهامز بين كل من الإمارات والبحرين وإسرائيل، وغير ذلك. لكن أسلوبه أتعب الأميركيين، كما انه استدعى أعداءً لدودين في الإعلام الأميركي وأحرج كثيراً الجيل الصاعد الأميركي بتصرفاته الاستفزازية.

قد يندم الأميركيون إذا عادوا الى الرتابة وإذا استعادت دول مثل روسيا وإيران والصين ثقة الارتياح للعودة الى أنماط الماضي في منطقة الخليج والشرق الأوسط بصورة خاصة، حيث المصالح نفطية واستراتيجية.

روسيا التي فضّلت ترامب على بايدن وهي من الموقّعين على اتفاقية PCPOA مع إيران قلقة من رفع العقوبات عن إيران لأن ذلك سيؤدي بطهران الى إعادة ضخ النفط بنسبة تؤثر في الأسعار والأسواق - الأمر الذي لا يناسب موسكو. الكرملين فسَّر علاقة ترامب بحلف الناتو على أنه لمصلحته ويرى أن تقليدية بايدن تحيي تقليدية الناتو. بوتين يقع في أكثر من مأزق في مختلف أنحاء العالم وهو يخشى أن تتحول سوريا مستنقعاً ولا يثق بما لدى أردوغان تجاه سوريا أو تجاه ليبيا أو تجاهه. العلاقة الروسية مع أي من ترامب وبايدن ستكون صعبة ومعقدة، بعقوبات ومواجهات، لكنها ستزداد صعوبة مع بايدن.

رئيس وزراء أستراليا الأسبق والرئيس والمدير التنفيذي حالياً لمؤسسة تجمع آسيا Asia Society، كيفن رود، أشار الى توازنٍ بين التجربتين في Parallels تركيا وايران. حذّر من أبعاد قيام أردوغان بتجاوزات على الصعيد الداخلي وقال: "إن ما يحدث في أنقرة وإسطنبول هو أكثر زعزعة مما نعتقد"، وما يحدث في إيران يثير الانتقادات الداخلية والتذمر من التجاوزات.

كلام كيفن رود أتى في سياق مشاركته في الحلقة المستديرة الافتراضية الواحدة والعشرين لقمة بيروت انستيتيوت في أبو ظبي سويّةً مع الرئيس الشريك في القمة الأمير تركي الفيصل، والجنرال ديفيد بترايوس الشريك في KKR والمدير الأسبق لوكالة المخابرات المركزية CIA وقائد القوات الأميركية السابق في العراق.

كيفن رود خبير متميّز في شؤون الصين وهو يرى أن "الصين ستستمر بالتضليل two-time في منطقة الخليج. وإذا اضطرت للاختيار بين الأنظمة الملكية وإيران، قد لا نعرف المسار الذي ستختاره الصين". وتابع ان استراتيجية الصين في اطار هذه العلاقات هي بقاء "الصداقة مع الجميع والعداء مع لا أحد الى حين اكتشاف أمرك. عندئذٍ، تملّص وابحث عن غطاء". Duck for cover.

الأمير تركي الفيصل علّق على العلاقة بين الصين وإيران، وقال: "ما أخشاه هو أن يقوم الإيرانيون بتضليل الصينيين بمعنى أن يحصلوا على كافة الفوائد فيما لا يحصل الصينيون على أي مقابل لانخراطهم الاستراتيجي". رأيه أن الدول الخليجية العربية لن تتأثر بصورة جذرية اما نتيجة العلاقة الصينية - الإيرانية أو بنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية. وقال: "نحن في الدول العربية يجب أن نأخذ في الاعتبار ان إدارة بايدن تنبثق من إدارة أوباما لكنها ليست بالضرورة مقيّدة بتنفيذ سياسات أوباما الخارجية بالذات في ما يتعلق بمسائل مثل JCPOA وغيرها... بايدن قال انه سيعود الى JCPOA ولكن بشروط. نحن لا نعرف ما هي الشروط لكنه تحدّث عن انتاج الصواريخ الإيرانية وعن النشاطات الإيرانية الخبيثة في المنطقة. كيف سيوفّق بين ذلك وبين عودته الى JCPOA، علينا الانتظار لنعرف الإجابة".
الجنرال بترايوس حذّر من قيام إيران "بلبننة العراق كما تسعى وراء لبننة سوريا. بكلام آخر أن تمتلك السيطرة على الشارع تماماً كما يفعل حزب الله في لبنان".

لكن بترايوس قلّل من إمكانية قيام "الحرس الثوري" من الثأر من قيام دول عربية بتوقيع اتفاقيات إبراهيم مع إسرائيل أو ضد الولايات المتحدة معتبراً أن قتل قائد "فيلق القدس" ومهندس السياسة الخارجية الإيرانية قاسم سليماني بقرار أميركي "بعث برسالة فائقة الأهمية وهي أن هناك حدوداً للصبر الأميركي... وإيران تلقّت تلك الرسالة".

القيادات العالمية تتأرجح على تفاصيل الانتخابات الرئاسية الأميركية لكنها في الوقت ذاته ترسم سيناريوات مضادّة ومتنوّعة. فالرئيس دونالد ترامب باقٍ رئيساً للولايات المتحدة حتى منتصف كانون الثاني (يناير). كثير قد يحدث من الآن حتى ذلك التاريخ، وقيادات العالم ستستمر في حبس أنفاسها.