حتى كتابة هذه السطور، لا يزال العالم بانتظار معرفة الفائز بسباق الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة. وخلال المتابعة للأحداث الدرامية في الأيام الأربعة الماضية، كنت أحاول فهم ما الذي حصل، تحديداً، ومن المستفيد من الوضع الجديد؟
لعل أبرز ما حصل بشكل واضح أن الحزب الجمهوري «تخلى» عن دونالد ترمب، الذي لم يجد له من يقف معه من قادة الحزب، في احتجاجاته القانونية على إجراءات فرز الأصوات وكذلك «انقلاب» ولاية المحافظين أريزونا لصالح خصمه جو بايدن، بتشجيع واضح وصريح من أرملة السيناتور الجمهوري الراحل جون ماكين وابنته، وتخلي الإعلام المؤيد له مثل قناة «فوكس نيوز» بإعلانها فوز بايدن بولاية أريزونا قبل اكتمال الفرز (عكس ما فعلته سائر المحطات الفضائية المحترفة)، وأيضاً صحيفة «نيويورك بوست»، وهي من أكبر مؤيديه، التي أصرت على «ضرورة التزام الرئيس باكتمال الفرز (وهذا عكس الموقف الذي نادى به ترمب بالمطالبة بإيقاف الفرز فوراً)».
كان غريباً استحداث قانون اعتماد قبول التصويت البريدي بحجة الجائحة، وهي المسألة التي جعلت دونالد ترمب يحتج ويعرب عن رفضه لذلك، لأنها بحسب تفسيره «مسألة لا يمكن التحكم فيها»، وبعد ذلك جاء الأمر بفصل فرز الأصوات البريدية عن غيرها في سابقة غريبة، لتظهر آثار كل ذلك بالزيادة المؤثرة لأصوات بايدن في ولايات كان المتقدم فيها دونالد ترمب لتنقلب الدفة لصالح بايدن.
المؤسسة الرئاسية في الولايات المتحدة لها مكانتها المهمة، ومهما كانت الخلافات السياسية بين السياسيين فهي لا تهبط دون المستوى الأخلاقي المسموح به. في اعتقاد الكثيرين من الساسة الأميركيين من الحزبين أن دونالد ترمب «أهان» العمل السياسي بشتمه لخصومه، وموظفيه، وحلفائه المهمين، وأن بقاءه أصبح «مكلفاً» سياسياً، وخصوصاً مع استمرار تشكيكه في المنظومة السياسية الأميركية التي هي بالنسبة للتركيبة السياسية فيها تعتبر «قدس الأقداس». يضاف إلى ذلك أن دونالد ترمب، جاء من خارج النادي السياسي؛ حيث جاء دخيلاً من عالم الأعمال، وهذا قد يفتح شهية آخرين لعمل الشيء نفسه، وبالتالي الدخول معه في مغامرة جديدة، قد تكون مكلفة وغير محسوبة المخاطر.
الشيء الغريب أن زيادة الأصوات بالانتخاب البريدي مست دونالد ترمب، ولم تمس انتخابات السيناتور ميتش ماكولين، زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ، ولم تمس انتخابات السيناتور المخضرم والمهم ليندسي غراهام، وكلاهما من خصوم الحزب الديمقراطي أيضاً، ولكن لم تحدث أي واقعة فرز «إضافية» بالنسبة لهما. لم يجد دونالد ترمب أصواتاً مؤيدة لاحتجاجاته القانونية من زعماء الحزب، مثلما حصل مع المرشح جورج بوش الابن في انتخابات 2000، ضد المرشح الديمقراطي آل غور، الذي هرع لنجدته وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر، ومعه فريق قانوني دستوري ساهم بشكل واضح في حسم الصراع لمصلحته لاحقاً. وهذا يفسر حالة الغضب، التي أفصح عنها إيريك ترمب، نجل الرئيس واتهم فيها قادة الحزب الجمهوري، بالتخلي عن والده «بشكل غادر».
دونالد ترمب لديه ملفات قضائية يخشى الملاحقة القضائية بسببها، كما بات معروفاً، ويبحث الآن عن صفقة أخيرة تؤمن له خروجاً آمناً.
أشهر كتب دونالد ترمب، هو الذي ألفه في ثمانينات القرن الماضي، بعنوان «فن الصفقة»، ووصف فيه نفسه بأنه لا يحب الأعمال التقليدية ولا السياسة، ولكنه يعشق الصفقات. أما المستفيد مما يحصل اليوم فهي الصين. الاقتصاد الأميركي يعاني، والوضع الصحي متدهور، والانقسام السياسي الداخلي غير مسبوق، وبالتالي الصين تعتقد أن هذه فرصتها لأن أميركا ستنشغل بالداخل، والصين التي تعتمد في اقتصادها على نسخ الأفكار ستعتمد العملة الإلكترونية، للتقليل من الاعتماد على الدولار، قبل غيرها وستسرع في الإنفاق الاستثماري الدولي لتعزيز نفوذها الدولي، مع محاولة الاستحواذ على شركات متعبة في أوروبا وأميركا اللاتينية.
الصين وبحسب دراسة أعدها أحد أهم مراكز صناعة القرار، بحاجة لثلاثين عاماً حتى تسبق أميركا في ظل استمرار الظروف الأميركية كما هي عليه. على المدى القصير ستستفيد الصين، ولكن حرية الإبداع وحرية الرأي وحرية الإعلام والتعبير، وحرية المال والأفكار غير الموجودة في الصين، تجعل الرهان على أميركا مسألة طبيعية ومنطقية بلا جدال.
مشهد الانتخابات الأميركية بين دونالد ترمب وحزبه الجمهوري تحول إلى لقطة تليق بسقوط قيصر في روما وبقي المشهد الختامي.