أكثر من أي مرّة سابقة ساد العالمَ شعور بأنها انتخابات تخصّه بمقدار ما تخص أميركا. لوهلة ارتسم الدليل العملي على تسرّع الأحكام القائلة بأن الدولة العظمى تتراجع أو تأفل، وبأن نفوذها يضمحل وتأثيرها يضعف، فلماذا الترقّب والاهتمام إذا كان ذلك التقويم صحيحاً، لأن النظام الأميركي بُني على أساس إدارة العالم، سياسياً ودفاعياً ومالياً، وأصبح أمراً واقعاً يصعب تغييره، صحيح أن تعدّد الأقطاب استحدث واقعاً موازياً، واستطاع في كثير من الأحيان أن يعطّل حركة النظام الدولي وقرارات أرادتها واشنطن، إلا أنه لم يوفّر للأقطاب الآخرين الميزات الكافية لمنافسة الفاعلية الأميركية، دول من كل الأحجام تخشى العقوبات أو مجرد التلويح بها، إذ أصبحت بديلاً أميركياً عن تحريك الجنود واستخدام القوة.
أهم ما أظهرته الانتخابات، بل ربما الأخطر، هو هذا الانقسام العمودي الذي لم يمرّ به المجتمع الأميركي منذ عقود طويلة، وقد دلّت عليه أولا نسبة عالية من الإقبال على التصويت، مباشرةً أو بالبريد، وثانياً حدّة التنافس وتقارب النتائج في عدد كبير من الولايات، وليس الانقسام مجرّد تحزّب أو عصبية، بل ينطوي على مفاهيم ورؤى متناقضة لـ«هوية» أميركا ودورها ومكانتها المستقبليين، أحدثت «الترامبية» حالة غير مسبوقة وطرحت تساؤلات على المستويين الداخلي والخارجي، سواء بتغريدات الرئيس أو بتغريده خارج المألوف ونقضه للتابهوات، وهذا ما شجّع كثيرين على دعم ما اعتبروه تغييراً أصبحت أميركا في حاجة إليه لتجديد بعض من قيمها ومراجعة بعض من سياساتها التقليدية، لكنه حفّز أيضاً كثيرين على فرملته، لأنه تخطّى الخطوط الحمر في تعامله مع الاحتقانات الاجتماعية والصدامات بين الأعراق أو بين الريف والمدن.
ومن الظواهر التي أبرزتها هذه الانتخابات أن الإحصاءات الأولية بيّنت بشكل لافت توزّعاً للأصوات مخالفاً لكثير من التوقعات في عدد من الولايات المتأرجحة، من ذلك، مثلاً، أن تصويت السود لم يتبدَّ كعامل حاسم لحظوظ «الديمقراطي» جو بايدن على المستوى الوطني العام، رغم الاضطرابات العنصرية المعروفة، إذ لم يحرموا الرئيس «الجمهوري» دونالد ترامب من أصواتهم في مناطق عدّة، وباستثناء فلوريدا حيث يبدو أن اللاتينيين حسموا نتيجة الولاية لمصلحة ترامب، فإن هؤلاء حافظوا في ولايات أخرى على تصويتهم تقليدياً للحزب الديمقراطي، كذلك ذكرت تحليلات لتصويت العرب والمسلمين أن دوافعهم كانت في معظمها أقرب إلى توجّهات الأميركيين الآخرين أكثر مما استندت إلى اعتبارات السياسة الخارجية، فالهاجس العام كان أزمة وباء «كوفيد-19» التي بدا على نطاق واسع أن الرئيس ترامب لم يحسن إدارتها ولا إدارة تداعياتها الاقتصادية، وهذا ما ظهر خصوصاً في بنسلفانيا التي آل إليها تحديد النتيجة النهائية للاقتراع.
ورغم أن السياسة الدولية لم تكن يوماً وسيلة «الجمهوريين» أو «الديموقراطيين» للفوز في الانتخابات، إلا أن العالم يتأثّر بالخيار الذي يتخذه الأميركيون، فلكلٍّ من الحزبين أفضلياته الخارجية ومعاييره وأسلوبه في الدفاع عن المصالح الأميركية، وغالباً ما كانت هناك نسبة مهمّة من الاستمرارية في السياسات، إلا أن ترامب كسر هذه القاعدة بل قلبها أحياناً رأساً على عقب، وهذا ما خبره الأوروبيون والعرب، كذلك الروس والصينيون والإيرانيون.. الذين يترقّبون ما سيبقى أو يتغيّر من «الترامبية»، بوجود ترامب أو بغيابه.