عند إجراء كل انتخابات رئاسة أميركية يتم طرح سؤال في عواصم العالم كافة؛ «ما تداعيات فوز هذا المرشح علينا؟». وبينما ينشغل الأميركيون بالنظر إلى أفضل سياسات المرشحين الداخلية، ويعاينون شخصياتهم، ينهمك الساسة والمحللون في الخارج في دراسة مواقف المرشحين تجاه الشؤون الخارجية، ويدرسون الفرق المخصصة للسياسات الخارجية خلال فترة الانتخابات. من الطبيعي أن يُكرس كل هذا الانتباه لانتقال السلطة في القوة العظمى في العالم حتى إن كانت الحملات الانتخابية مركزة على القضايا الداخلية.

والآن، بعد الإعلان عن فوز جو بايدن بالرئاسة الأميركية تتجه الأنظار إلى سياساته وفريق عمله، مع التكهن حول الخطوات الأولى التي من المتوقع أن يتخذها لدى وصوله للبيت الأبيض نهاية يناير (كانون الثاني) المقبل. وقد أوضح نيته العودة إلى اتفاق باريس للمناخ وإعادة العلاقات مجدداً مع منظمة الصحة الدولية، بعد أن انسحب الرئيس الحالي دونالد ترمب منهما. وعلى الرغم من أن العالم العربي يتساءل عن سياساته تجاه المنطقة تحديداً، هاتان الخطوتان مهمة بالنسبة للمنطقة وللعالم. فمن دون تنسيق دولي جدي للحد من تداعيات وباء «كوفيد 19» والتنسيق لمواجهة التغيير المناخي، مستقبلنا جمعياً مهدد.

تاريخ بايدن في مجلس الشيوخ الأميركي وترؤسه للجنة العلاقات الخارجية في المجلس يعني أنه سيهتم بالشؤون الخارجية، ولكن وقته سيكون ضيقاً، ما يحدّ من قدرته على الخوض في تفاصيل تلك السياسات. كما أن من دون شك، الرئيس الأميركي المقبل سينشغل أولاً بوباء «كوفيد 19» وسبل معالجة تبعاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كما أن نتائج الانتخابات أكدت مجدداً مدى الشرخ في المجتمع الأميركي، ولذلك سيكون الرئيس الجديد منشغلاً بالشؤون الداخلية ولفترة طويلة. هناك واقع لا يمكن نكرانه، الشعب الأميركي لا يريد الانخراط في حروب جديدة، ولا أن تظهر بلاده في مقدمة عمل دولي. الهمّ الأول والأخير للناخب الأميركي الوضع الداخلي، وهناك 70 مليون ناخب صوتوا لصالح ترمب، وعلى بايدن والديمقراطيين وضعهم في الحسبان عند إدارة البلاد.

لذلك اختياره فريق الشؤون الخارجية في غاية الأهمية، خاصة أنه من المتوقع أن يعيد الحيوية لوزارة الخارجية التي تراجع دورها في عهد الرئيس ترمب. يتم تداول أسماء كثير من الشخصيات المعروفة في الأوساط الديمقراطية لتتولى مناصب رفيعة المستوى في الإدارة، على رأسها مسؤولون عملوا في إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. ولكن تفيد مصادر أميركية أن هناك وعياً لدى هؤلاء بأن العالم قد تغير خلال السنوات الماضية السابقة، وأن هناك بعض الإخفاقات في سياسات إدارة أوباما، الأمر الذي اعترف الرئيس أوباما نفسه به خلال مقابلة مع «فوكس نيوز» قبل أن يغادر البيت الأبيض، عندما قال إنه أساء التخطيط لحقبة ما بعد سقوط معمر القذافي في ليبيا.

الملفات الليبية والسورية والفلسطينية كلها تنتظر تحركات الرئيس الجديد. لكن الأبرز بالطبع سيكون الملف الإيراني والتوسع الإيراني في العراق ولبنان وسوريا واليمن. وقد أوضح الديمقراطيون أنهم يريدون إبرام اتفاق مع إيران، ولكن السؤال هو ما شكل هذا الاتفاق وكيف سينعكس على العالم العربي. الإجابة تعتمد على السياسات التي سيتم اتباعها في الدول العربية التي تعاني من التدخل الإيراني. على سبيل المثال، لقد تولى بايدن الإشراف على ملف العراق خلال رئاسة أوباما ولعب دوراً مفصلياً في القرار الأميركي لدعم نوري المالكي بتولي رئاسة الوزراء بعد انتخابات عام 2010. على الرغم من فوز إياد علاوي بعدد أعلى من الأصوات في البرلمان. ذلك القرار التاريخي غيّر مسار العراق. كما أن بايدن كان ضد التدخل في سوريا؛ حيث كان ينظر للتطورات فيها بعد عام 2011 على أنها «صراع طائفي» وليس ثورة شعبية. لقد أوضح بايدن خلال مداخلات مقتضبة خلال الحملة الانتخابية أنه على علم بمدى التوسع الإيراني الحالي، لكنه كان حذراً ولم يوضح كيف سيتعامل مع هذا الملف، وإذا كان قد تعلم أي دروس من الحقبة الماضية.

هذا الإيضاح سيعتمد على عاملين؛ الأول فريق بايدن الذي سيقود العلاقات الخارجية، والثاني كيف تتعامل العواصم العربية النافذة مع الإدارة الجديدة. فيما يخص العامل الأول، هناك شخصيات قديرة في فريق بايدن من بينهم جيك ساليفان، مستشار الأمن القومي لبايدن عندما كان نائباً للرئيس، الذي كان هو وويليام بيرنز، نائب وزير الخارجية الأميركي حينها، أول من خاض المفاوضات السرية مع الإيرانيين. وساليفان يؤمن بأنه من الضروري التوصل إلى اتفاق مع الإيرانيين حول برنامجهم النووي، وهذا كان في صميم عمله. لكنه أيضاً يؤمن بأنه من الضروري العمل على مسار موازٍ للحد من التدخل الإيراني في المنطقة. في حال كانت كفة ساليفان وبيرنز هي الأقوى في الإدارة الجديدة، ستكون هناك فرص للتوصل إلى حلول مجدية.

لقد تعرفت على عدد من هؤلاء المسؤولين خلال عملي في واشنطن مديرة مكتب «الشرق الأوسط» أثناء فترة إدارة أوباما الأولى. وكانت لي فرصة التعرف على طريقة تفكير جيك ساليفان بشكل أدق خلال التحاقي بجامعة «ييل» حيث كان يدرس مادة «السياسة الأميركية والقانون الدولي». أظهر خلال تلك المحاضرات معرفته الدقيقة بالقانون الدولي وأهمية الأعراف والمعاهدات الدولية، لكنه أيضاً أظهر وعياً للثغرات في بعض السياسات الأميركية، وخاصة بعضها التي اتبعتها بلاده هذا القرن. هذه المعرفة والخبرة ستكون مهمة خلال الفترة المقبلة من عمله السياسي الذي يتوقع أن يتوج بمنصب رفيع المستوى في إدارة بايدن. هناك شخصيات أخرى بين النخب الديمقراطية أقل حماسة للتوصل إلى اتفاق موسع يشمل التصرفات الإيرانية في المنطقة، مثل إنتوني بلينكون، نائب وزير الخارجية الأميركي السابق، وفي حال توليه منصباً يؤثر من خلاله على السياسة الأميركية في المنطقة، ستكون إيران مرتاحة أكثر.

كل هذه القضايا يمكن للساسة والمحللين في العالم العربي أن ينظروا إليها ويدرسوها رغم قلة تأثيرهم عليها. لكن الأمر الذي يمكنهم أن يؤثروا فيه هو طرح مقترحات فعلية واستراتيجية على الإدارة الجديدة. بايدن سيبحث عن حلول سريعة وسيرغب في الظهور بأنه أنجح من سلفه في التوصل إلى حلول ملموسة. لا شيء في المنطقة سهل؛ مما يصعّب الخروج بحلول سريعة للشرق الأوسط، لكن طرح خريطة طريق أو رسم مسارات للحوار والتفاوض سيكون له تأثير إيجابي، وقد يحدث تغييراً يفيد جميع الأطراف.