ليس من دولة وطنية، بعد القرن التاسع عشر (قرن القوميات والوحدات القومية بامتياز)، لم يكن مبناها على أمة أو على أمم ملتئمة في كيانها السياسي؛ لذلك عرفت في الفكر السياسي الحديث، باسم الدولة الأمة (Etat – Nation)، وإن كانت في بعض حالاتها تأخذ شكل دولة متعددة القوميات: من طبيعة اتحادية في الغالب أو مركزية (وإنْ هي أوحت بأنها لا مركزية). ولم يكن قد بقي من الأمم بعد الحرب العالمية الثانية إلا القليل من التي لم تقو على إقامة كيانها الموحد، فيما انفرط عقد دول متعددة القوميات كثيرة، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، فتقسمتها قومياتها لتلتئم في دول قومية مستقلة، منذ انفراط عقد الإمبراطورية العثمانية حتى انهيار الاتحاد السوفييتي وتشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا.

ولقد أدت حروب استعمارية وإمبريالية، منذ أواسط عقد الأربعينيات من القرن الماضي، إلى تقسيم أمم وتجزئة دولها بين القوى الكبرى، على مثال ما حصل لألمانيا، ثم لفيتنام وكوريا، بينما أمكن بعضها أن يستعيد وحدته الكيانية بعد ذلك كما في الحالتين الألمانية والفيتنامية، فيما فشل في ذلك آخر.

عملياً لم يبق من الأمم الكبرى التي فشلت في إنجاز وحدتها القومية حتى الآن، أو التي عجزت عن أو منعت من استعادة وحدة كيانها سوى العرب والكوريين والصينيين، حيث ترسخت فيها، وإن بدرجات متفاوتة، كيانات سياسية متمسكة بحدودها الجغرافية الإقليمية وسياداتها، وزرعت بينها نزاعات عميقة تعسر إمكانات توحيدها، كما هي الحال بين الصين الشعبية وتايوان وبين الكوريتين، وبما يجاوز ما بين الكيانات العربية من خلافات ونزاعات: على الحدود بينها، كما على الخيارات السياسية.

والحق أن التوحيد القومي لم يكن تفصيلاً عادياً في تاريخ الأمم الحديثة، أو مصادفة تاريخية طيبة أخذت الأمم تلك إلى نهاية محمودة لشوط طويل قطعته في معاناتها التفكيك والتقسيم، وإنما هو «التوحيد» الذي عليه كان التعويل في صناعة مشروع التقدم في المجتمعات الحديثة. وعلى الرغم من أن تاريخ أوروبا وأمريكا الشمالية الحديث، تاريخ تراكم لمكتسبات هي لبنات تقدمها (مثل النهضة الأوروبية، والإصلاح الديني، والثورة العلمية، والثورة الصناعية، وفلسفة الأنوار، والثورات البرجوازية، وقيام النظام الديمقراطي)، فإن حلقة التوحيد القومي كانت حلقة أساساً؛ بل مركزية في عملية التراكم والبناء تلك. وليس من مبالغة في القول، إن المكتسبات تلك ما كانت لتتعزز وتغدو حقيقة مادية لو لم يتوفر لها هذا الحامل السياسي الذي مثله التوحيد القومي.

وإذا كان ذلك واضحاً في حالات بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، منذ وقت مبكر، فهو أوضح في حالة البلدان التي تأخرت وحدتها الكيانية إلى القرن التاسع عشر، مثل روسيا وألمانيا وإيطاليا؛ أي التي انطلق نهوضها مع إنجاز وحدتها.

إذا كان العرب قد أخفق في إنجاز كثير من أهدافه النهضوية التي تطلع إلى تحقيقها باكراً منذ القرن التاسع عشر: حماية الأمن القومي وتحرير المغتصب من الأراضي، والثورة الصناعية والاستقلال الاقتصادي اللذان يحررانه من التبعية للخارج، وإقامة النظام المدني الحديث والخروج من حلقة التأخر التاريخي واكتساب أسباب التمدن والتقدم أسوة بالأمم الكبرى المعاصرة، فما ذلك إلا لأنه لم يحرز أي قدر من النجاح حتى الآن، في تحقيق بعض وجوه التوحيد القومي بينه، على المستويات الاقتصادية والتجارية خاصة. وسيظل على كياناته الضعيفة، المستقل بعضها عن بعض، أن تستمر في معاناة العجز عن فعل شيء كبير ينقلها من حال الفاقة أو التبعية أو هشاشة الأمن الاستراتيجي، إلى حيث تصير دولاً قوية ذات اعتبار في عالم اليوم الذي تحكمه القوى الكبرى وتقرر مصيره. نعم. سيكون عليها أن تستمر كذلك إن لم تلتفت إلى مسألة التوحيد.

نحن هنا لا نرتل موقفاً أيديولوجياً بعينه، وإنما نسلم بحقيقة تاريخية: حاجة التقدم إلى عملية التوحيد كما قام عليها دليل من تجارب التاريخ، لا كما بسطت في نصوص الفكر. ومع ذلك، لا يمنعنا هذا إطلاقاً، من أن نقول من غير تردد، إن الوحدة حق للأمة العربية أسوة بغيرها من الأمم التي تمتعت به. وإذا كان بلوغ هدف حيازة هذا الحق أمراً صعباً اليوم، فهو لن يكون مستحيلاً غداً. ولا يتوقف إمكانه على عمق الوعي به عند العرب جميعا؛ بل قد يأتي الإمكان من طريق أخرى غير الإيمان: من طريق ضغط الحاجة إليه.