البحث عن تأكيدات وفاة أيمن الظواهري، آخر من تبقى من رموز «القاعدة» الفاعلين من الجيل المؤسس منذ لقائه مع بن لادن وانتقال التنظيم من المحلية إلى العالمية، أشبه بالبحث عن أشباح في كهف الإرهاب المعتم، حيث ساهمت انكسارات التنظيم على يد تنظيم «داعش»، الذي خسر خليفته المزعوم ومساحة واسعة من أراضيه في خلق حالة «كمون» وانكماش لدى التنظيمات الإرهابية، وهو ما يعني تحولات عميقة وهائلة في وضعية التطرف والعنف المسلح لا تعني نهاية أو بداية، حيث الأفكار لا تموت ببقاء وقودها، وإنما انتقال إلى مستويات جديدة من العمل والتحشيد والرعاية والحرب بالوكالة.
مصدر خبر وفاة الظواهري إيماءات على حسابات تابعة لأفراد من «القاعدة» نشطين على مواقع التواصل الاجتماعي الشهيرة أو الجديدة، حيث ينتقل التنظيم في معسكراته الإلكترونية بسرعة فائقة نحو منصات إلكترونية غير معتادة، خصوصاً التي يقل الضغط عليها أمنياً. وكانت حسابات لمجموعة من المناصرين لتنظيم «حراس الدين»، الذراع الأساسية لتنظيم «القاعدة» في سوريا، أعلنت الوفاة، وتلقفته مواقع ومراكز دراسات غربية التي تختص بمراقبة حركة المحتوى الإرهابي على شبكة الإنترنت، في سعي حثيث للخروج بخبر عاجل يعيد الأضواء إلى الحرب الطويلة على الإرهاب، من خلال إعلان انتصار كبير عبر رحيل أحد الرموز، ولو كان السبب في وفاته هو المرض، وهو ما يلقي بظلاله على مسألة مهمة أيضاً في التحولات في ملف الإرهاب.
أهم هذه التحولات هو انتقال التنظيمات الإرهابية من الحضور إلى العودة إلى الكمون والعمل السري والتجنيد، واقتناص الفرص في الملفات التي تعيد نشاطه التمويلي وإعادة الاهتمام بالمحتوى، كما هو الحال مع الأزمات أو الملفات المتصلة بالإسلاموفويا، واستهداف الرموز الدينية، حيث باتت هذه التنظيمات رهينة مسارين وجوديين: تحولها إلى مشاريع ظل بسبب غياب الاستقلالية في القيادة والتمويل، حيث باتت مشاريع تابعة لكنف ملالي طهران وحلف الأزمات عبر مشاركتها في استهدافها لدول المنطقة، أو المساهمة في تمرير مشاريع انتهازية، كما هو الحال مع مشروع إردوغان التوسعي في ليبيا، لتتحول إلى وقود لمعارك الآخرين وأجندتهم.
غياب القيادات والرموز المؤثرة في التنظيمات لا يعني موات فعالية الإرهاب أو قدرته على التدمير، وإنما يعني تحوله إلى مدينة أشباح كبرى غير متوقعة تعمل فيه الخلايا وقطعان الذئاب المنفردة بشكل غير منسق لتسجيل حضورها في ملف الأزمات، وإن تعددت مسبباتها، أو كانت ليست ذات صلة، بينما تحاول الكتل التنظيمية المتطرفة لـ«القاعدة» التنظيم الأكثر تجذراً في مجموعات اجتماعية في بلدان شرق أفريقيا وبعض مناطق آسيا، في حين أن يعمل منافس «القاعدة»، تنظيم «داعش»، على الاستثمار في الوقائع والحوادث الإرهابية، وتجيير مكتسباتها الإعلامية والكارثية لصالح خدمة التنظيم وتمويله وانتشاره والتجنيد الرقمي الذي يبرع فيه من دون أن يضطر إلى محاولة الحفاظ على الكتل والمجموعات والبنى الاجتماعية، كما هو الحال مع تنظيم «القاعدة» الذي يرى مشروع الجهادوية المعاصرة إرثاً مستداماً، وليس مجرد حالة تستدعيها تحولات مناطق التوتر أو تعزيز لمفهوم «النصرة» فحسب.
الكمون الظاهري الذي تبديه هذه المرحلة من تحركات التنظيمات الإرهابية، على رأسها تنظيم «القاعدة»، لا يعني إلا تراجعاً تكتيكياً لمنظومة الإرهاب المعقدة، التي تتطور مع بقاء مضخات إنتاجها الفكرية والتمويلية، وأيضاً المناخ السياسي العام الذي ما زالت قضايا المنطقة معه عالقة إلى أجل مسمى.
منطق «القاعدة» الكموني، إذا صحت التسمية، ولد مع صعود تنظيم «داعش»، خصوصاً بعد ثورات «الربيع العربي»، حيث بات «القاعديون» أكثر انحيازاً للملفات والمفاهيم السياسية والتحالفات مع ملالي طهران ودول رعاية الإرهاب والأزمات، أكثر من كونهم ممثلين أمينين لفكر التنظيم، ولعل ثقة «القاعدة» بنفسها تجلت في النجاحات المتتالية لها في إقامة مجموعاتها الصغيرة سريعة النمو في البلدان التي فشلت في استثمار الثورات لمصلحة بناء الدولة، الأمر يحدث بكثافة نوعية في اليمن وليبيا وشمال أفريقيا، وبنسب أقل وأكثر سرية في مناطق أخرى من العالم، خصوصاً أوروبا وبعض البلدان العربية، حسب معطيات تدفق محتويات التنظيم وتناولها للملفات المحلية والإقليمية.
التحول الأكثر خطورة في معضلة الإرهاب، هو انتقاله إلى رأس مال سياسي لدول الأزمات، حيث بات اللعب بورقة التنظيمات الإرهابية، ومواقفها مدفوعة الثمن من قِبل دول إقليمية، على رأسها نظام ملالي طهران وحلفاؤه، وهو أمر قديم تاريخياً، لكن جديده الآن يكمن محاولات بعث التنظيمات الإرهابية عبر تعميم وإشاعة أفكارها وشعاراتها حيال الملفات السياسية، وإعادة تدوير المحتوى لردم الفجوة الزمنية لعلاقة الأجيال الجديدة الشابة وعلاقتها بالتنظيمات بعد أفول نجمها.
الأكيد أن قوة «القاعدة» في أفكارها العابرة للقارات التي تصل إلى شرائح جديدة كل يوم بسبب تفاقم الأزمات على مستوى الهوية والانتماء في ظل الاضطرابات السياسية، فيما تتحكم العوامل الاقتصادية وحالة التهميش الاجتماعي لمسلمي أوروبا في تبني خيار «القاعدة»، ولو بشكل تدريجي وبين مجموعات وفئات سِنية معينة. هذه النشوة «القاعدية» في الشمال الأفريقي تحديداً، باتت تهدد دولاً مستقرة، وتنعم بتنمية مستمرة في بلدان أوروبية، خصوصاً مع حالة التباين والفجوة العميقة مع تأسيس إسلام أوروبي معتدل، من شأنه حث المسلمين الأوروبيين على القطيعة مع التطرف وإعادة دمجهم كمواطنين دون أقواس.