ينتصر الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، في مماته. ولا بد من أنه سعيد، وهو يرى هذه الدعوات للعودة إلى «الفلسفة»، كلما غرق العالم أكثر في أنفاق التيه. فحين أطلق مع شريكه فيليكس غوتاري عام 1972 كتابهما الشهير «ضد أوديب»، كان حلمه أن يرى للفلسفة جماهير عريضة، كما للموسيقى والرسم والمسرح. ومنذ إطلاقه مصطلح «فلسفة البوب»، تحولت علاقة الجماهير بالفلسفة صعوداً وهبوطاً. وإن كان المصطلح لا يزال سيئ السمعة باللغة العربية، ومن يتفلسف هو ضحل التفكير كثير الكلام، ففي اللغات الأجنبية اكتسب معنى التفكير والتأمل، والذهاب إلى البحث عن إجابات فردية، لمشكلات إنسانية.
منذ مطلع القرن الجديد والفلسفة تتلقى الضربات، بسبب هجران الطلاب لأقسامها في الجامعات، وتهميشها في الثانويات. واستدركت «اليونيسكو» الخطب، وخصصت كل ثالث خميس من مثل هذا الشهر، يوماً عالمياً للفلسفة. وإن بقي النجاح محدوداً، فالحاجة الملحة لإعادة النظر في معضلات شتى، تعيد لهذا الحيز اعتباره. وخاطبت الأمينة العامة للمنظمة أودري أزولاي، هذه السنة، المهتمين قائلة: «إذا كانت الأزمة الصحية قد أعادتنا للتساؤل حول أسس مجتمعاتنا، فإن الفلسفة ستساعدنا على المضي بتحفيز التفكير النقدي في المشكلات المطروحة، والتي يدفع بها الوباء لبلوغ ذروتها. وفي الوقت الذي يمكن أن تربكنا فيه راديكالية الاضطرابات الكبرى، تتيح لنا الفلسفة أن نتراجع خطوة إلى الوراء، ونرى بوضوح أكبر».
هذا تماماً ما رمى إليه دولوز، وهو يطمح إلى رؤية كل شخص يسعى للحكمة. وقد يكون كتاب الطاهر بن جلون «الفلسفة كما أشرحها للأطفال» امتداداً لتلك الرغبة في تبسيط المعقد، والغوص في أعماق البسيط، كما غيره ممن اضطلعوا بهذه المهمة. فإن دولاً عديدة بدأت تعيد الفلسفة إلى المدرسة، من الصفوف الابتدائية. قد يبدو الأمر غرائبياً؛ لكن كنه الفلسفة هو الإجابة عن: «ماذا» و«كيف». وهما عمق ما يطلبه طفل يتلمس العالم. وإذا كان الموت، والحق، والحب، والألم، والعدل، هي مما يشغل الصغار، من دون أن يعرفوا تسميته، فلماذا لا نطلق لهم عنان السؤال، ونساعدهم لإيجاد إجابات، وندعمهم للوصول إلى فكر مستقل، حر، وفردي؟
ولا يُستغرب أن يعاد تدريب أساتذة بعد أن خلت الساحة، طالما أن المؤلفات وافرة. وعلى عكس العربية التي بقي فلاسفتها حبيسي زمنهم، تم تبسيط أفلاطون وسبينوزا، وكانط، وباسكال. وأخذ من أرسطو أجمل عباراته للاستدلال على أن الفلسفة للجميع؛ لأن «ما يجعل الإنسان مختلفاً عن الحيوان، هو قدرته على الاندهاش». ويكفي أن تحرض إنسانا غضاً على البوح بانشغالاته، وإثارة فضوله، ودفعه للبحث عن إجابات خاصة، ليكون قد بدأ يلج عالم الفلسفة.
هناك قناعة بأن هذا النمط التعليمي كفيل بتنمية مخلوقات أكثر تسامحاً وإدراكاً لحق الاختلاف، وتفهم الآخر. وأسوأ ما يعاني منه طلابنا، هو عجزهم المحزن عن تحديد مفاهيم أساسية، مثل «الحرية» أو «العدالة» أو حتى «الموضوعية» أو «التعصب» أو «التطرف». ولو كنا قد أسسنا لشيء من التفلسف المبني على الاختبار الذاتي؛ لكنا بدأنا في تسلق سلم الصعود. فالحديث هو عن مسار يُفتح للأطفال، ليتحول إلى نهج يتطور بفعل التحريض المستمر، والنقاش الذي لا ينقطع.
وإن كانت الجائحة قد فتحت الأبواب للعودة إلى «فلسفة الوباء» التي تنبه من سطوة الفيروس وقدرته على تفكيك الأفكار والآيديولوجيات والأنظمة، تماماً كما يفكك أعضاء الجسد، فإن تنائي البشر بحجرهم يؤدي أيضاً إلى فجوات بين النفوس.
وتنشط «فلسفة ما بعد الوباء» هي أيضاً، لتحذر من خواء، يصعب ملؤه، وفوضى تحتاج إدارة عاقلة، خشية الانجراف إلى عنف عارم. ويتشارك في هذا إيمانويل تود، كما إدغار موران، والمفكر جاك أتالي. ويأخذنا أمين معلوف في روايته الجديدة «الإخوة الذين لم نتوقعهم»، إلى حضارة ضرب الفساد مداميكها، وبلغت نهاياتها الحتمية، ولا تجد لها من منقذ سوى مخلوقات تنبجس من اللامكان، عائدة من اليونان القديمة، حاملة علومها الخارقة، وسلامها الفائق، وقدرتها على الغفران، لتنتصر بالمعرفة على الصواريخ والترسانات النووية، والشر العصري المسنون الأرواح، وتجعل الناس يجثون إعجاباً بها، ويستسلمون لعلوية مداركها.
وفي الوقت الذي نكتب فيه هذه المقال، يناقش فلاسفة تحت مظلة «اليونيسكو» قدرة أسلحتهم المعرفية على بناء عالم جديد، أمام تصدعات تشبه التي وصفها معلوف. ويحذر مفكرون من أن غزو الشاشات، والاكتفاء بقراءة الهذر، والمعلومات المغلوطة، وقدرة فئة صغيرة على استهداف الجماهير العريضة، بمواضيع وأخبار من دون غيرها، أمور تعزز الأفكار الأحادية؛ حيث يعثر كل متعنت على قبيلة تشبهه على الشبكة، يخوض حربه بمعيتها.
يقال بأن «ما يميزنا عن قرود البومبو، هو الوعي بوجودنا كأفراد، لكل منا حيثيته. والوعي العميق أيضاً بأن هذه الفردية الهشة والمؤلمة، وهبت لنا منذ آلاف السنين، ومنحتنا استثنائيتنا في بناء عالم الكتابة». أضف إليها القراءة كمدماكين أساسيين لصفتنا الإنسانية.
الفكرة حول سلطة المعرفة وقوة تأثيرها، قد تكتمل باقتراح لأنثروبولوجي يعتقد أن مجرد تعديل طفيف للزاوية التي نرى منها إلى الأشياء يحدث فرقاً جوهرياً. فقد بنيت الأبحاث التاريخية على مبدأ أن الإنسان ينزع إلى الشر بطبعه؛ خصوصاً حين يكون في موقع سلطة، فهل كانت ستكتب الأحداث بالطريقة عينها، لو اعتبر المؤرخون أن هؤلاء الذين يكتبون عنهم، الأصل فيهم هو الخير، وبحثوا عن الأسباب الكامنة وراء جموحهم؟
قليل جداً من الحكمة كفيل بأن يغير مسار التاريخ.