• ينتهج نهج سلفه لجهة المضي قدمًا في تأصيل سياسة إقليمية هدفها محاصرة النفوذ الصيني المتعاظم

بعد عام واحد من تولي رئيس الحكومة اليابانية السابق «شينزو أبي» منصبه في عام 2012 اختار منطقة جنوب شرق آسيا لتكون الوجهة الأولى لأول زيارة خارجية يقوم بها. وهذا ما فعله مؤخرًا رئيس وزراء اليابان الجديد المنتخب حديثًا، يوشيدا سوغا، حينما اختار أن تكون أولى زياراته الخارجية إلى بلدين من بلدان جنوب شرق آسيا، الأمر الذي يشير إلى تزايد الاهمية الاستراتيجية لهذه المنطقة في المخططات اليابانية الإقليمية، خصوصًا وأن لطوكيو مصالح واستثمارات اقتصادية معتبرة فيها.

وإذا ما دققنا في البلدين اللذين قرر سوغا أن يزورهما وهما فيتنام واندونيسيا لوجدنا أن علاقات كليهما مع الصين يشوبها الحذر، كي لا نقول التوتر. ففيتنام اشتبكت مع الصين عسكريًا ثلاث مرات ما بين عامي 1979 و1991 بسبب الحدود والنفوذ في كمبوديا. واندونيسيا لها تجربة مريرة مع الحزب الشيوعي الصيني في الستينات حينما حاول الأخير قلب نظام رئيسها الأسبق أحمد سوكارنو، ناهيك عن أنها ــ كما فيتنام ــ تنازع الصين السيادة على جزر صغيرة في بحر الصين الجنوبي.

وهنا مربط الفرس، بمعنى أن طوكيو التي يشوب علاقاتها مع بكين التوتر لأسباب تاريخية معروفة معطوفة على أسباب التنافس الاقتصادي بين البلدين، تريد أن تتصدى لتزايد النفوذ الصيني في الإقليم، بمساعدة من دول مجموعة آسيان ذات النفوذ الاقتصادي والثقل الاستراتيجي. وهذا ما أكده الزعيم الياباني الجديد علانية حينما أطلق في هانوي تصريحًا قال فيه إن تصرفات الصين في المنطقة «مخالفة لسيادة القانون» وإن اليابان «تعارض بشدة أي إجراءات من قبل بكين تؤدي إلى تصعيد التوترات في بحر الصين الجنوبي»، مضيفًا أن من واجب تكتل آسيان أن تعمل وتنسق مع القوى المحبة للأمن والاستقرار والسلام من أجل الحفاظ على المحيطين الهندي والهادئ كمنطقة حرة ومفتوحة.

ومن أهم الأمور اللافتة في زيارة سوغا إلى فيتنام، التي تترأس حاليا منظومة آسيان، وإلى أندونيسيا، العاجزة عن وقف تمدد الصين إلى بحر «ناتونا» شمال أرخبيلها، توقيع الضيف الياباني مع مضيفيه عددًا من الاتفاقيات الدفاعية. ففي هانوي مثلاً وقع سوغا مع نظيره الفيتنامي «نغوين شو إن فوك» اتفاقية دفاعية ثنائية جديدة لتعزيز التعاون العسكري بين البلدين وتسهيل حصول فيتنام على صادرات الأسلحة والتكنولوجيا العسكرية اليابانية وتعبيد الطريق أمام تعاون أوسع بين الجانبين فيما خصّ الأمن البحري في منطقة بحر الصين الجنوبي. ومما يجدر بنا ذكره في هذا السياق أن اليابان كانت في مقدمة الدول التي طورت القدرات البحرية الاستخباراتية والاستطلاعية لفيتنام ودول آسيان الأخرى، علاوة على استفادة فيتنام كثيرًا من دوريات البحرية اليابانية وسط توتر علاقاتها مع الصين. وفي هانوي أيضًا ناشد سوغا مضيفيه العمل من أجل تخفيف قيود التجارة والاستثمار بين البلدين، حيث تعد اليابان من أبرز الدول المصدرة إلى فيتنام ومن أبرز الأقطار الأجنبية المستثمرة فيها.

أما في جاكرتا، فقد تعهد الزائر الياباني بتقديم قروض مخفضة الفائدة لأندونيسيا بقيمة 473 مليون دولار أمريكي كي تتغلب الأخيرة على أزماتها الاقتصادية الناجمة عن تداعيات جائحة كورونا ومن أجل تنشيط العلاقات الاقتصادية الثنائية، وهو ما أسعد الرئيس الأندونيسي «جوكو ويدودو» الذي علق قائلا أن بلاده تطلب مساعدة اليابان في إعادة الأمور إلى نصابها في منطقة تتعرض للأزمات الاقتصادية والتهديدات الناجمة عن تنافس القوى العالمية عليها، في إشارة ــ على مايبدو ــ إلى المخططات الصينية.

وجملة القول إن اليابان منذ عام 2014 حينما تمّ تخفيف القيود الدستورية المفروضة على حركتها العسكرية في الخارج، وهي تتفاوض على اتفاقيات دفاعية مع دول آسيوية رئيسية في المحيطين الهندي والهادئ ــ منها الهند مثلاً ــ بهدف التصدي للنفوذ الصيني، وما انضمامها إلى تحالف جديد آخذ في التبلور بين الهند والولايات المتحدة واستراليا إلا مثالاً على هذا الهدف. وبمعنى آخر فإن سوغا ينتهج نهج سلفه لجهة المضي قدما في تأصيل سياسة اقليمية هدفها محاصرة النفوذ الصيني المتعاظم في مياه المحيطين الهندي والهادئ.

ومما لاشك فيه أن التحركات اليابانية هذه باتت مصدر إزعاج لقادة بكين يضاف إلى انزعاجهم من تحركات الهند باتجاه تايوان. وليس على أدل على ذلك مما نشرته صحيفة «غلوبال تايمز» الصينية الناطقة بالانجليزية والمدعومة من الحزب الحاكم من وصف اليابان بالذيل التابع للولايات المتحدة واتهامها بأنها تسعى لأن تكون قوة عظمى في المنطقة مثل واشنطون.