بدأ التنسيق بين فريقي الرئيس الحالي دونالد ترامب والرئيس المنتخَب جو بايدن في العملية الانتقالية للسلطة التنفيذية إنما ليس بدون معركة ضارية على مستقبل العلاقة الأميركية- الإيرانية ومصير الاتفاقية النووية المسماة JCPOA. الصين تبقى، بالتأكيد، الأولوية الحاسمة للسياسة الأميركية الخارجية، لكن المسألة الإيرانية تبدو أكثر حضوراً على عدة مستويات من ضمنها عقوبات فرضتها إدارة ترامب على شركات صينية وروسية هذا الأسبوع بتهمة توفير تكنولوجيا نووية الى إيران. ثم هناك رسائل عسكرية غير واضحة كليّا لجهة تطوّرها من الآن الى حين تسليم مفاتيح البيت الأبيض تتمثّل في غارات إسرائيلية على مواقع إيرانية في سوريا وداخل إيران يتردد انها تلقى معونة أميركية مباشرة ويُلقى عليها لقب "ضربات الخنجر" Dagger strikes لكونها سريعة، عميقة، محدودة الأهداف والمواقع.

في المسألة العسكرية، تقول المصادر، إن هناك خطة متكاملة لضربات ضد مواقع نووية داخل إيران يحتاج البنتاغون الى أمر خطّي من الرئيس لتنفيذها، وحتى الآن لم يصدر الرئيس ترامب تلك التعليمات. تضيف المصادر ذاتها، ان استهداف إسرائيل لمواقع إيرانية تشمل "حزب الله" داخل سوريا لن يتوقف بل سيزداد، لكنها استبعدت في الوقت الحاضر أن تقع اشتباكات اسرائيلية مع "حزب الله" مباشرة عبر الحدود اللبنانية.

القرار الإيراني العسكري يتأرجح على رهان القيادات في طهران على إلغاء إدارة بايدن العقوبات، أو تجميدها مرحلياً، مما يعطي إيران مساحة استراحة من وطأة هذه العقوبات المتتالية عليها وعلى كل من يمد لها يد المعونة. هناك من يتوسّل الى "الحرس الثوري" القائم على صنع السياسة الإيرانية الخارجية بشقَّيها المدني والعسكري ألاّ ينفّذ توعّد الانتقام من قتل قاسم سليماني ومن "اتفاقيات ابراهام" بين الإمارات والبحرين وإسرائيل ريثما تتسلّم إدارة بايدن مهامها في 20 كانون الثاني (يناير). إنما هناك داخل بوتقة صنع القرار في طهران من يتحدّى موجة التفاؤل العارم بنقلة نوعية في العلاقات مع الولايات المتحدة بموجب مغادرة ترامب ووصول بايدن إلى البيت الأبيض، وذلك لأسباب واقعية في عملية اعادة التفاوض على JCPOA، كما نتيجة التزامات فريق بايدن بحقوق الإنسان داخل إيران، ونتيجة سلسلة العقوبات التي تنوي إدارة ترامب فرضها الى اليوم الأخير لها.

وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أبلغ نظراء له ان إيران جاهزة لتسّريع speed العودة الى الاتفاقية النووية التي انسحب منها الرئيس ترامب. هذا يعني ان طهران جاهزة للعطاء في مكانٍ ما مقابل تفاهمات تؤدّي الى إحياء اتفاقية JCPOA ورفع العقوبات. هذا المكان قد يحمل عنواناً نووياً أو صاروخياً. إنما، وكما أكدت المصادر المطّلعة على تفكير "الحرس الثوري"، "لا مجال على الإطلاق لإدخال عنصر السلوك الإيراني الإقليمي" على مفاوضات العودة الى الاتفاقية النووية.

السؤال الأهم هنا يتعلّق بمدى استعداد الرئيس المنتخب جو بايدن وفريقه للرضوخ لإصرار "الحرس الثوري" على استبعاد التوسّع الإيراني الإقليمي وسياسات التدخل في سوريا والعراق ولبنان واليمن عن مفاوضات الصفقة النووية. "الحرس الثوري" يراهن على فريق بايدن سيّما وأن بين مَن يَتولى أكبر المناصب من كان له دور في المفاوضات السريّة التي أدّت إلى إبرام الاتفاقية عام 2015، ومن أبرزهم مستشار الأمن القومي في إدارة بايدن، جايك سوليفان. يراهن على ما يعتبره ضعفاً بنيويّاً في صفوف الدول الأوروبية الثلاث الموقّعة على JCPOA – بريطانيا وفرنسا وألمانيا- إذا ما تم وضعها تحت الأمر الواقع: إما العودة الى JCPOA بدون عنصر نشاطات إيران الإقليمية، وإما الإصرار على إدراج عنصر السياسات الإيرانية الإقليمية بما يؤدي الى رفض طهران الـJCPOA بحلّتها الجديدة. رهان "الحرس الثوري" هو أن جميع الموقِعين على الاتفاقية عام 2015 ووافقوا حينذاك على شرط إيران استبعاد سياساتها الإقليمية عن المفاوضات النووية، سيرضخون مُجدّداً "لأن الاتفاقية النووية أهم بعشرة أضعاف من الشرق الأوسط برمته"، حسب تعبير أحد المقرّبين من التفكير في طهران.

المرحلة الأولى من المفاوضات المرتقبة بين فريق بايدن وفريق طهران ستكون مفاوضات ثنائية. وبحسب المصادر التي أكدت أن أطرافاً ثالثة ترعى مباحثات سرّية بين الطرفين، تصب هذه الجهود في خانة إقناع طهران بأن توافق مُسبقاً على مسائل حيوية لإعادة إحياء الاتفاقية النووية نظراً لصعوبة استئناف الاتفاقية بصورة أوتوماتيكية.

اليوت ابرامز، الممثل الخاص لإيران وفنزويلا في وزارة الخارجية الأميركية شارك هذا الأسبوع في الحلقة المستديرة الافتراضية الـ24 لقمة بيروت انستيتيوت في أبو ظبي حيث شرح استحالة العودة التلقائية الى الاتفاقية النووية، وأكد عزم إدارة ترامب على فرض عقوبات متتالية على إيران والصين وروسيا طوال الأشهر من الآن حتى 20 كانون الثاني (يناير) "حتى النهاية"، وشدّد على "مأساوية وغباء" عدم استخدام ما أنجزته إدارة ترامب في الملف الإيراني في سياسات الإدارة المقبلة.

قال "نحن نعتقد أن أمام إدارة بايدن فرصة عظيمة لأن هناك الآن قدر كبير من النفوذ والتأثيرLeverage على إيران عبر العقوبات والعمل سويّاً بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية الثلاث، فرنسا والمانيا وبريطانيا، والعمل مع أصدقائنا وشركائنا في المنطقة، إسرائيل والسعودية، والإمارات. أمامنا فرصة للعمل سويّاً على انتاج اتفاقية تعالج فعلاً، نعم، مسألة الصواريخ والمسألة الإقليمية على نسق مشكلة لبنان الذي يعاني ليس فقط من مشاكله الداخلية وإنما من سعي إيران للهيمنة عليه كي يكون لها حدود على البحر المتوسّط ومع إسرائيل. فإذا عملنا معاً، هناك فرصة حقيقية. أما إذا رمينا جانباً وسائل النفوذ والتأثير التي لدينا، سيكون ذلك حقاً مأساوياً وغبياً. فهناك فرصة للتوصّل الى اتفاقية بنّاءة تتطرّق الى جميع هذه المشاكل، إذا استخدمنا وسائل نفوذنا Leverage".

أضاف ابرامز مشيراً الى طوني بلينكن وزير الخارجية المفترض في إدارة بايدن والى جايك سوليفان "أعرف جيداً طوني بلينكن وجايك سوليفان وهما شخصان رائعان. إنما السؤال في رأيي هو هل تعلّما من الأخطاء التي ارتكبتها إدارة أوباما في تلك المفاوضات مع إيران؟ وهل يدركان أن 2015 ليست 2021 وان عليهما اأن يبنيا على دروس الماضي؟".

الدول العربية المعنيّة مثل السعودية والإمارات بدأت العمل مع فريق بايدن للتأكد من عدم استبعادها كليّاً عن المفاوضات مع إيران لإعادة إحياء الاتفاقية النووية. بدأت أيضاً استخدام علاقاتها الخاصة مع الدول الأخرى الموقّعة على الاتفاقية للتأكّد من عدم هرولة الجميع الى إحياءٍ تلقائي لاتفاقية JCPOA بمباركة تلقائية لأدوار إيران الإقليمية وبرفع العقوبات تلقائياً عن طهران بما يمكّن "الحرس الثوري" من استكمال المشاريع التوسّعية للجمهورية الإسلامية الإيرانية.

الخطر من تكرار إعفاء إيران من المراقبة والمحاسبة على مغامراتها ومشاريعها الإقليمية خطرٌ حقيقي لأن هذا آخر هم لدى الصين وروسيا وربما أيضاً لدى بريطانيا والمانيا. فرنسا اتخذت موقفاً علنياً داعياً الى طرح المسألة الإقليمية على طاولة البحث في إعادة إحياء الاتفاقية النووية. ما لم يصبح هذا موقفاً رسمياً للدول الأوروبية الثلاث، يبقى موقفاً ناقصاً. ولذلك على الدول العربية المعنية أن تُجنّد قدراتها للتأثير ليس فقط في إدارة بايدن وإنما أيضاً الدول الخمس الأخرى التي وقّعت على اتفاقية JCPOA وهي تدرك تماماً انها كانت توقِّع على اتفاقية تطلق حرية إيران للتدخل في سوريا والعراق واليمن ولبنان بتمويل من رفع العقوبات والقيود عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية. جميع هذه الدول تعمّدت التظاهر بحسن نواياها من خلال قولها انها تثق بتأثير هذه الاتفاقية على السلوك الإيراني الإقليمي، وأتت النتيجة واضحة في مأساة سوريا والعراق ولبنان.

أثناء الحلقة المستديرة الافتراضية التي شاركت فيها السفيرة الأميركية لدى لبنان دوروثي شاي، وعضو البرلمان اللبناني فؤاد مخزومي، ونائب مدير التخطيط والاستراتيجية في وزارة الخارجية الفرنسية، غورفان لوبرا، كان واضحاً أن فرنسا بدأت تتملّص من تعهداتها لإدارة ترامب بفرض العقوبات على الشخصيات اللبنانية التي تعرقل مبادرتها للبنان وكذلك نحو إيران. لوبرا قال "صحيح تماماً انه يجب علينا مشاركة نفس الأهداف مع الولايات المتحدة من حيث التأكد من أن الطبقات المختلفة للتهديد الإيراني في المنطقة، سواء كان انتشاراً نووياً أو سلوكاً اقليمياً، بحاجة الى معالجة. لكننا بالتأكيد نختلف على طريقة تحقيق ذلك ولا نعتقد أن العقوبات يمكن أن تحقق هذا الهدف في هذا السياق المحدد. أعتقد انها مسألة بنية أمنية، وهذا شيء يمكننا العمل عليه".

مخزومي تحدّى لوبرا وخاطبه متحدّياً كامل المبادرة الفرنسية للبنان وأنماط غضّ النظر عن سيطرة "حزب الله" على لبنان. وقال "حزب الله، بعد العقوبات المفروضة على إيران، وجّه أنظارهم داخلياً للتعويض عن الأموال التي أوقفتها العقوبات، ووجد ذلك في المرفأ وفي المطار وفي المنافذ غير الشرعية بين لبنان وسوريا. ولسوء الحظ، فإن أكبر جريمة وقعت في لبنان في 4 آب (أغسطس) دمرت المرفأ. ولكن هذا لا ينفي أنه لا يزال يتعيّن علينا السيطرة على المطار، ولا يزال علينا ضبط الحدود مع سوريا حيث نقترح على المجتمع الدولي وضع القيود والمشاركة فعليّاً في أمن مطار بيروت من خلال اتحاد النقل الجوي الدولي IATA".

السفيرة دوروثي شاي شدّدت أثناء الحلقة الافتراضية على فاعلية العقوبات ليس فقط على إيران و"حزب الله" وإنما أيضاً على المتعاونين معهما والفاسدين منهم في الطبقة السياسية المتحكّمة بلبنان. فضحت ما وصفته باستعداد وزير الخارجية الأسبق جبران باسيل التخلّي عن علاقته مع حزب الله "وكان قريباً من النقطة التي كان مستعدّاً فيها لإلقاء المنشفة". وقالت "أي شخص كان متورطاً في فسادٍ أوسع، أو أي شخص يساعد ويحرّض منظمة إرهابية (حزب الله)، يجب عليه مراجعة أفعاله والنظر في الآثار المترتّبة عليه"، على نسق العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على جبران باسيل وغيره.

رزمة العقوبات الأميركية الآتية ستطال أهدافاً في لبنان وإيران وهناك، حسب المصادر، رزمة تستهدف حوالى 30-40 شركة صينية و20 شركة روسية بسبب علاقاتها مع إيران تشمل كبار الشركات في مجال الفضاء والمجال النووي والملاحة وإنتاج الطائرات. هذه الرزمة، إذا تم التوقيع عليها، ستقيّد أيادي إدارة بايدن بصورة كبيرة بحيث لن يتمكّن من التملّص منها، مهما شاء.

إدارة ترامب عازمة على قطع الطريق على أية هرولة في ذهن فريق بايدن نحو إعادة تعويم الجمهورية الإسلامية الإيرانية بإعفاءات خطيرة. أدواتها ليست فقط في حدّة العقوبات. ولذلك تبرز أهمية مراقبة الذبذبات العسكرية التي تشير لربما الى عمليات استباقية للهرولة نحو إعفاء طهران.