بين المطالبين بالوحدة العربية والمدافعين عن الدولة الوطنية خشية متبادلة، وخصومة فكرية – سياسية مستمرة. ينظر الأوّلون إلى الأخيرين كدعاة إلى تأييد التجزئة الكيانية وكحُرّاسٍ لها، وينظر هؤلاء إلى الأوّلين كدعاة إلى إبادة الدولة الوطنية وكأعداء ألدّاء لها. ومن الطبيعي أن يمتنع حوارٌ بين الاثنين وأن لا يُنْتَظَر منهما تَفاهُم على مُتّحَدات في المسألة. كما أن من المسلم به أن لا يتولد من حديث الواحد منهما عن خطاب الثاني سوى القدح والتشنيع والتشكيك، أي كل ما يخرج عن تقاليد السياسة والمناظرة والحوار.

من يقرأ كتابات القوميين العرب عن الوحدة والتجزئة وعن مواقف المدافعين عن الدول الوطنية (أو القطريّة) القائمة، يخال أن المدافعين هؤلاء أجانب معادون للأمّة، أو عملاء لهم في الداخل ينوبون عن الأجنبي في «حراسة» التجزئة! ومن يقرأ كتابات المدافعين عن هذه الدولة في مسائل الوحدة والقومية وفي القوميين يُخيَّل إليه أن هؤلاء القوميين ليسوا من أبناء الأمّة أو أنهم أجانب مدسوسون فيها موكولون بمهمة تخريب استقرار كياناتها! والحق أنّه لا هؤلاء ولا أولئك كما يصفون بعضهم بعضاً، وأنّ لكل فريق منهما حظاً من الوجاهة في الرأي والمقالة، وأن خلافهما كلّه مبناهُ على التباس في مسائل المساجلة البينية وسوء تفاهُم يمنعهما من رؤيتها رؤيةً صحيحة.

ليست الدولة الوطنية القائمة عائقاً، بالضرورة، في وجه مشروع الوحدة العربية، وليس الأخير مسماراً يُدَق في نعش الدولة الوطنية حكماً. لقد بات الخروج من هذه الحلقة المفرَغة واجباً وشرطاً لازماً لتأسيس رؤية جديدة إلى الوحدة العربية، وإلى جدلية العلاقة التكاملية بين قوة الدولة الوطنية ومنْعتها، من جهة، وانفتاح الإمكان التاريخي أمام بناء وحدة عربية متوافَقٍ عليها من جهة أخرى. ليس في وسع عقل تبسيطي مُغْلَق أن يَدلنا على سبيلٍ سالكة إلى إدراك ما يمكن أن يقوم من وشائج الترابُط بين الوحدوي (القومي) والوطني، لأنه – بكل بساطة – يفكر فيهما من حيث هما كليّتان مغلقتان لا ديناميةَ اتصالٍ بينهما. لا بد من عقل جدلي، إذن، كي ندرك الترابط بين الحدين فنتوقف عن اصطناع الحوائل والفجوات بينهما.

قلنا إن الدول الوطنية القائمة ليست حائلاً ضد الوحدة لسبب بديهي، عندنا، هو أن الوحدة تُبْنَى بحجارة صلبة هي، بالذات، هذه الدول كلما قَوِيت وتَمتن عودُها. ويرُدُّ هذا إلى مفهومنا للوحدة؛ فالوحدة – كما بتنا نتصورها منذ ربع قرن - هي الوحدة في إطار اتحادي لا الوحدة الإدماجية التي تلغي مكوناتها؛ لسبب بسيط هو أن مثل هذه الوحدة لم يعد ممكناً. وعليه، من مصلحة أي مشروع وحدوي الحرص على تقوية كيان الدول الوطنية وتعظيم تماسكه، وتنمية قواه الذاتية، وتوطيد نسيجه الاجتماعي الوطني لأن في ذلك الضمانة الوحيدة لوحدة قوية. بهذه الرؤية إلى الوحدة، بوصفها شراكة اتحادية بين الدول العربية في دولة اتحاديّة جامعة، تستطيع الدولة الوطنية ويستطيع المدافعون عنها الاطمئنان إلى كيانيتها التي لن تمحى أو تزول بفعل تلك الوحدة.

في المقابل، ينبغي النظر إلى الوحدة كأفق خلاصي للدولة الوطنية لا كتهديد وجوديٍ لها. إن ما يهدد بقاء الدولة الوطنية ونموها ليستِ الوحدة العربية، قطعاً، وإنما التنكُّب عنها والاستمرار في الوضع الكياني لدولة صغيرة، ضعيفة الموارد البشرية والطبيعية وصغيرةِ السوق الوطنية مثل الدول الوطنية القائمة حالياً. لم تصبح بروسيا قوية إلا في إطار الوحدة الألمانية، وكذلك إمارة فلورنسا التي قَوِيت بالوحدة الإيطالية، وقلِ الشيء نفسه عن قوّة ولاية (دولة) كاليفورنيا التي تعاظمت قوّةً بوحدة ولايات أمريكا.

في هذه الأمثلة، وفي غيرها الكثير، ما يدُلُّنا على أن المنافع التي تجلبها الدولة الوطنية من وراء الشراكة الوحدوية أكبر بكثير، من أي خسارات يتصور المدافعون عنها أنها قد تصيبها منها. والثابت، اليوم، أن الدولة الوطنية غير قادرة، بإمكانياتها الذاتية المتواضعة ومواردها البشرية والطبيعية المحدودة، على أن تحمي – بمفردها – أمنها الوطني وحقوقها، وتُعظِّم مصالحها في عالمٍ غير متكافئ تحكمه قوانين التنافس الصعب والقوة والعولمة وإكراهاتُها. وهذا، بالذات، ما يحمل حتى كبرى الدول في الغرب نفسه على الانتظام في أطر اتحادية أعلى لحفظ حقها في المنافسة، بل في البقاء في هذا العالم الجديد.