عقودٌ طويلةٌ من التعديات والتطفل على دول المنطقة والعالم، دأب عليها النظام الثيوقراطي في إيران. كانت اللاعب العنيف البارز على مسرح الأحداث؛ اختطاف طائرات، أعمال تخريبية، تطفل على سيادة الدول بالسلاح. تحولت المنطقة إلى ساحة الصراع الأكبر في العالم بسبب هذا النظام الفاشي. زمن طويل ودول المنطقة المسالمة تدفع بأموالها وجنودها وثقلها السياسي في محاولة كفّ شرور هذا النظام الشرير الذي يحلم بالهيمنة على المنطقة العربية. ومن أجل هذا الهدف، تحول هذا النظام إلى مافيا، تدير أعمالاً قذرة حول العالم من تجارة المخدرات والدعارة والاتجار بالبشر، ثم غسل الأموال التي تلزمها للإنفاق على الاعتداءات الوحشية في بلدان تطمع بالسيطرة عليها. كان من الصعب محاولة الاستخفاف بتأثير إيران على رسم الأحداث، وتحديد مصائر دول عجزت عن مقاومتها، وتجلَّت هذه القوة بشكل واضح بُعيد سقوط نظام صدام حسين في عام 2003، لأنَّ العراق، بوابة العبور الرئيسية ومركز التمويل، أصبح ساحة مستباحة بعد فشل واشنطن حينئذ في قراءة واقع المنطقة، وإدارة الأزمة، ونقل السلطة، والتعامل مع العراق الجديد بظروفه الجديدة.
لم تكن إيران وقتها نمراً من ورق، كانت نمراً وحشياً يزأر وينهش، وغرقت العراق في الدماء التي راحت ضحية احتراب الميليشيات المدعومة من إيران مع تنظيم «القاعدة»، الذي اتفق مع نظام الملالي على وحدة الهدف، وساعد كل منهما الآخر لتصبح العراق على ما هي عليه اليوم. ثم سوريا وتداعيات ثورتها، واليمن، والبحرين، ولبنان الأسوأ حالاً بين كل مستعمرات إيران. ومع أن المجتمع الدولي حاول بخطوات متأخرة لجم هذه الوحشية، لكنَّه كان متراخياً ومتردداً، لأنَّ آلية نظام القانون الدولي بطيئة ومعقدة لا تواكب سرعة التحرك الإيراني المسعور، ومسابقة نظامها للزمن للحصول على قنبلة نووية.
نقطة التحول الكبيرة التي غيرت اتجاه الريح عكس ما تهوى طهران كان تمزيق الاتفاق النووي من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترمب. أهمية هذه الخطوة كونها كانت في بداية فترة حكم ترمب، وهذا يعني تصاعد التوقعات بسنوات كبيسة على النظام، وهو ما حصل فعلاً، لأنَّ العقوبات الاقتصادية بلغت مبلغاً لم يحصل من قبل، خصوصاً المتعلق بمجال الطاقة وتصدير النفط. ومع أنَّ أثر العقوبات كان واضحاً من خلال تقليص نشاطها المسلح في الدول المستهدفة، لكن الأسوأ كان في الداخل الإيراني الذي ظهر للعالم من خلال رفض الشارع للنظام ورموزه، وحتى المقرات الدينية التي أحرقت في دلالة على أن الحوزات هي مراكز توليد الملالي ونقطة ارتكازهم. ولم تتوقف إدارة ترمب عند هذا الحد، ونفذت أهم عملية زلزلت هيبة النظام من خلال اغتيال الجنرال قاسم سليماني. وسليماني لم يكن عسكرياً ذكياً ومخططاً بارعاً ورجلاً ملهماً لجماعته فقط، بل كان المرشد الأعلى في العراق وسوريا، بكل ما تعنيه هذه المكانة من نفوذ وسطوة وتأثير. ومع أن الجنرالات البديلين متاحون، لكن سليماني كانت يده طليقة من قبل المرشد الأعلى، وهذا ما جعل النظام في إيران يشعر بانتكاسة كبيرة معنوية ومادية بخسارة الرجل الأول لهم خارج الحدود. إيران بدورها أعطت رد فعل مقابلاً، من خلال مخالفات مرصودة في برنامجها النووي وبرنامج تطوير الصواريخ الباليستية، وهذا ما فرض سلاحاً آخر في المعركة ضدها من خلال اقتناص كبار علمائها في الفيزياء النووية. تصفية خبراء السلاح، أياً كان مجال تصنيفهم، أمر ليس جديداً في مواجهة كسر العظام، ولم يكن اغتيال إسرائيل مؤخراً للعالم الإيراني محسن فخري زاده هو السبق الأول، لكن ينطبق عليه ما ينطبق على سليماني، بأنه الرجل الرمز، والأب الروحي للنشاط الذي ترفعه إيران في وجه العالم. ومع أنَّ إيران عرفت بنشاطاتها العدائية في دول مختلفة من العالم، لكن هذا لا يعني أن نجاحها الذي بدأت فيه لا يزال قائماً. هناك إخفاقات كبيرة خلال السنوات الماضية لأجهزة الاستخبارات الإيرانية، مثل فشل خطة اغتيال السفير السعودي في واشنطن آنذاك عادل الجبير، ثم كشف ملابسات الخطة وتفاصيلها. أيضاً فشل المخابرات الإيرانية في تنفيذ عمل إرهابي كانت تخطط له مدة طويلة لإفشال مؤتمر المعارضة الإيرانية (مجاهدين خلق) في باريس عام 2018.
هل تغير النمر المتوحش إلى آخر يئن متخماً بالجراح؟ هذا واضح. وما تسبب في الإحراج لاستخبارات الحرس الثوري أن فخري زاده لم تتم تصفيته بصاروخ عن بُعد، كادت عملية الاغتيال أن تفشل لأنَّ سيارته لم تنفجر، ما دعا فريق المهمة إلى سحب فخري خارج السيارة والإجهاز عليه بالسلاح، ثم اختفى الفريق خلال دقائق. هذا لم يحصل في الصومال أو اليمن أو نيجيريا، بل في إيران، التي تفاخر بقوة أجهزتها الاستخباراتية. إيران لم تخسر عالماً جباراً مثل فخري فقط، بل خسرت هيبتها وعلى أرضها.
السؤال الذي يخطر ببالنا في هذه اللحظة؛ إلى أي مدى تغلغل الموساد في الداخل الإيراني؟ وإلى أي درجة بنى لنفسه خلايا نائمة؟ رموز النظام يتساقطون مثل الذباب في ظل عجز الحرس الثوري، الذين يمنون أنفسهم بأنَّ جو بايدن الرئيس الأميركي المنتخب سيكون أكثر مرونة معهم كما كان زميله باراك أوباما. الوصول لهذه المرحلة من الرجاء واليأس تنبئ بأن قاعدة نظام الحكم في إيران بدأ ينخر فيها العفن، وأنَّ قوة ميليشياتها في لبنان واليمن وسوريا والعراق كانت لسبب، وهو أنَّ هذه البلدان ضعيفة أمنياً، وليس لأنَّ رجال المرشد نمور.