جولة المفاوضات البريطانية - الأوروبية الجارية حاليا للتوصل إلى اتفاق تجاري بين الطرفين في أعقاب إتمام انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي نهاية العام الجاري، هذه الجولة يمكن اعتبارها الأهم بين كل الجولات السابقة. ومع ذلك لا شيء مضمون قد ينتج عنها، ولا سيما في ظل تمسك الطرفين بنقاط محورية خلافية، اصطدمت بها كل المفاوضات السابقة التي جرت على كل المستويات. الجولة الحالية هي الحاسمة أو على الأقل ستحدد آفاق مستقبل العلاقات بين لندن وبروكسل، سواء بالتوقيع على اتفاق تجاري يسود العلاقات بعد الانسحاب، أو بفشل التوقيع والخروج من الكتلة الأوروبية بلا اتفاق، وهو أمر يتفق الجميع على أنه سيسبب أضرارا اقتصادية كبيرة للجانب البريطاني أكثر من الجانب الأوروبي.
بوصول ميشيل بارنييه كبير المفاوضين الأوروبيين إلى لندن سادت أجواء من الأمل في الأوساط المعنية، حتى الجهات الدولية التي تراقب من كثب عملية الانفصال البريطانية منذ أن اتخذت المملكة المتحدة قرارها بترك الاتحاد الأوروبي. بارنييه قال: إنه سعيد بعودته إلى لندن، وإنه سيواصل العمل بصبر وعزيمة. وهذه إشارة إلى أنه لم يفقد صبره بعد، رغم المواقف البريطانية التي عدها متعنتة في الأشهر القليلة الماضية، وأدت إلى تراشق الاتهامات بين الطرفين، خصوصا فيما يتعلق بجزئية بسيطة جدا، لكنها محورية كثيرا، وهي تلك التي تتعلق بحقوق الصيد في المياه البريطانية من قبل الصيادين الأوروبيين. فقطاع الصيد في المملكة المتحدة لا يمثل أكثر من 1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، لكنه يؤثر بصورة كبيرة في صعيد حقوق الصيادين البريطانيين، وله رابط شعبي محلي مهم.
لا شك أن مواقف الجانب البريطاني ستكون أقل تشددا في هذه المرحلة، وذلك لأسباب عديدة في مقدمتها إعلان الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن، أنه لن يوقع على أي اتفاق تجاري مع بريطانيا إذا لم تتم حماية اتفاق السلام التاريخي في إيرلندا. وهذه نقطة خلافية حساسة أيضا لم يتم حسمها حتى الآن. دون أن ننسى أن معسكر الحزب الديمقراطي الأمريكي أعلن صراحة امتعاضه من مسألة انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي برمتها. ورغم أن واشنطن (ما بعد الرئيس دونالد ترمب) لا تستطيع أن تلغي هذه المسألة، إلا أن بإمكانها أن توجه البوصلة التفاوضية بصورة أو أخرى بين بروكسل ولندن، ولا سيما أن إدارة بايدن أكدت مرارا أنها ستمنح الأفضلية في التعامل التجاري مع الاتحاد الأوروبي.
الخوف من عدم التوصل إلى اتفاق من الآن حتى نهاية العام الجاري، يتعاظم على الساحة البريطانية، حتى إن الهيئة المشرفة على تصنيع الأدوية في بريطانيا، حذرت من أن عدم الاتفاق سيؤدي إلى نقص كبير في إمدادات الدواء حتى توزيع اللقاح المأمول ضد وباء كورونا المستجد. فضلا عن الجوانب الأخرى، مثل تأخر الإمدادات الغذائية، وتضرر حركة الشحن، فضلا عن الفوضى المتوقعة في القطاع المالي البريطاني. فهذا القطاع يمثل محورا رئيسا ضمن الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، ولندن وحدها تستحوذ على أكثر من 49 في المائة منه. ولذلك، يسيطر الذعر والتوتر على المصارف الاستثمارية والمؤسسات المالية في العاصمة البريطانية، من جراء فشل المفاوضات الأوروبية - البريطانية. فالسلطات المالية الأوروبية المختصة حذرت بالفعل هذا القطاع من مغبة إتمام "بريكست" دون اتفاق.
من هنا، فإن أفضل طريق لمنع الفوضى والخسائر المالية والاقتصادية أن يتم التوقيع على الاتفاق المنشود في غضون الأسابيع المتبقية من العام الحالي. بغير هذا الاتفاق، سيكون من الصعب على بريطانيا أن تواصل حتى تعاملها الأمني مع الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي دفع الجهات الأمنية في المملكة المتحدة إلى مناشدة حكومتها بأن تمضي قدما في اتفاق شامل، يضمن عدم ارتفاع معدلات الجريمة في البلاد، وضمان ملاحقة المطلوبين على الساحة الأوروبية، وفق القوانين المعمول بها حاليا بين الطرفين. باختصار، ستتجمع الأضرار في كل الميادين في حال الخروج بلا اتفاق، خصوصا الاقتصادية في وقت تعاني فيه بريطانيا - كغيرها من بقية دول العالم - ركودا اقتصاديا تاريخيا اعترف ريتشي سوناك وزير المالية، بأنه لم يحدث منذ 300 عام.
هناك كثير من التفاصيل المرعبة حقا على الساحة، لم يكن أحد يهتم بها في ظل عضوية بريطانيا الكاملة في الاتحاد الأوروبي. لذلك لا بد من اتفاق تجاري شامل لا يضمن مصالح بريطانيا في أوروبا فحسب، بل يضمن أيضا اتفاقا تجاريا محوريا جدا للندن مع واشنطن. فحكومة بوريس جونسون تعلق أهمية كبيرة على هذا الاتفاق، على اعتبار أن الولايات المتحدة تمثل الشريك التجاري الثاني لها بعد الاتحاد الأوروبي. حسم "بريكست" بات على الأبواب، فإما الخروج باتفاق يحافظ على المكتسبات البريطانية والأوروبية في آن معا، وتبقى المملكة المتحدة ضمن الدائرة الأوروبية، أو الانسحاب دون هذا الاتفاق لتواجه بريطانيا مصاعب ستكون أكبر بكثير من تلك التي سيواجهها الأوروبيون. إنها لحظة تاريخية مؤثرة جدا.