كورونا ليست صدفة، مخطط جهنمي للسيطرة على الكوكب وناسه، اللقاحات مريبة، يريدون أن يجنوا الأموال الطائلة، اللقاح الجديد يتضمن مواد (أو شريحة ذكية!) للتحكّم في المحقونين مثل الروبوتات!...

ليس بيننا مَن لم يسمع إحدى تلك التنويعات على نظريات المؤامرة المحيطة بجائحة كورونا منذ انفلاتها، قبل نحو عام، والتي تزايدت وتيرتها وصِيغها المتوتّرة، مع إعلان إيجاد اللقاحات والإعداد لترخيصها وإنتاجها. في لبنان، حيث درجت منذ عشر سنوات على الأقل، ساعات تلفزيونية وفيديوهات "يوتيوب" بالآلاف لبث "التنبؤات" و"الرؤى" بشأن ما يحدث وما سيحدث، فارشةً أرضية خصبة، مع الدين والغيبيات وحتى الخطاب السياسي، لتلقي تهويمات وخرافات باعتبارها المعقول واليقين اللذين تزاح عنهما أحجبة التورية وخطط الغرف السوداء والزمن الآتي. وكذلك، في أميركا الشمالية واللاتينية، وأوروبا والهند.. في أنحاء العالم برمّته.

المؤامرة.. ليست دائماً نتاج ماكينة واضحة ومكرّسة، وإن كانت الماكينات موجودة وقوية لدرجة أنها ما عادت تأبه لبقائها سرّية. روسيا فلاديمير بوتين رائدة ومتفوقة في صناعة تلك الماكينات وتشغيلها بمهارة وطاقات مهولة، وتفريع خطوط إنتاجها في مختلف بقاع الأرض. ومن دون الانزلاق إلى نظرية مؤامرة مقابلة، لعله من الآمِن القول، إن بروباغندا عالمية تشتغل هنا، في ما يخص كورونا واللقاح، لأسباب سياسية وتجارية، تستكمل عملاً ممنهجاً عمره عقد أو اثنان في أقل تقدير. وهو عمل يكمل الأثر التصاعدي الآن لمجموعات "مناهضة اللقاحات" التي تزداد اتساعاً وعدداً، وهي موضة ثقافية واجتماعية وسياسية متفشية في أميركا والعالم، منذ بداية الألفية الثالثة. دونالد ترامب نفسه، ومن قبل خوضه غمار السياسة بشكل مباشر، أطلق العام 2007، نظرية "فضح" لقاحات الأطفال التي "تتسبب في التوحد" وأمراض أخرى، الأمر الذي تفاقم بين مصدّقيه ومناصريه لدرجة أنه أدى إلى "أزمة تفشي الحصبة" العام 2019.. المرض الذي قد يظن المرء أنه صار من النوادر في الدول المتقدمة.

لكن، لا بد أيضاً من الاعتراف: البشر بحاجة إلى "معنى" يسبغونه على كل ما يعانونه بسبب كورونا، سياسياً واقتصادياً وعائلياً ونفسياً، وهي معاناة ما زالت بلا أجوبة كافية، بدءاً من قصة ظهور الفيروس نفسه في ووهان-الصين، وصولاً إلى صورة أكثر اكتمالاً للقاحات الجديدة. التفسير السّحري لفكّ الطلاسم والغموض، يمكنه، في لحظات القلق والإحباط والغضب، أن يغلب المنطق. هو أكثر شفاء للغليل. معروف تزايده في لحظات اللايقين الاجتماعي والسياسي، وهو بحد ذاته يتصرف مثل الفيروس، يبدأ من جزئية صحيحة (ووهان، الوطواط، المختبر) ويتوالد من نفسه ويتطور وينتج طفراته السردية. الخيال يحتاجه معظم البشر، مثل الدِّين، والمؤسف أنه يبدو أغنى وأكثر إثارة وإشباعاً من بيانات منظمة الصحة العالمية التي عاودت، منذ أيام قليلة، تجديد تعهدها لسكّان الأرض جميعاً بكشف القصة الكاملة لنشأة "كوفيد-19".. بمجرد أن تسمح لها الصين بزيارة مدينة ولادته وجَمع المعلومات اللازمة، وهذا ما لم يحصل حتى الآن.

ليس الفيروس وحده الذي ما زال بلا قصة (هل نركن أخيراً لصدفة الوطواط المشؤوم؟ أم التسرب من مختبر؟ خطأ مهني خلال تجارب على أسلحة بيولوجية؟ غزوة من الفضاء الخارجي؟!..). اللقاح أيضاً ما زال بلا حكاية، سوى الحكاية المضادة! فهو من نوع جديد تماماً لجهة التركيبة والمنطق الطبي، أول لقاح بشري يعتمد على "الكود الجيني" للفيروس بدلاً من أجزاء أخرى من الفيروس نفسه. والإعلان عنه ما زال ينقصه خطابه الخاص. تتطاير في الإعلام أرقام كثيرة، وآراء أطباء وتصريحات مسؤولين، لكن المترددين لا يجدون صخرة صلبة يستندون إليها لحسم أمرهم، ما يفضي بهم حُكماً إلى المقلب الآخر: "لا للقاح".. فنسبة 42% فقط من الأميركيين يريدون أخذ اللقاح لدى توافره، بحسب إحصاء نشر في آب/أغسطس2020، فيما بيّنت دراسة أخرى أن عدد المتأكدين من أنهم يريدون أخذ اللقاح انخفض بمقدار النصف تقريباً بين أيار/مايو وأيلول/سبتمبر 2020. هذا في أميركا، حيث الوباء أفظع من أي مكان بلد، وحيث أبرز تكنولوجيا تطوير اللقاح أيضاً. ومعسكر "لا للقاح" هو الآن الذي يمتلك سردية كاملة وخطاباً مدججاً بالحجج والاستدلالات، ودائماً الخيال الملوّن، فمثلاً: أنظروا انخراط المؤسسات العسكرية في موضوع اللقاح، ماذا يقول لكم؟ إضافة إلى "البراهين" الكثيرة والمتنوعة، ولا يهم إن كانت مزيّفة ومطعون بشدة في صحّتها العلمية والطبية، كما هو الحال مع فيديو Plandemic – أو "خطة الجائحة". أطلقته، قبل أشهر، الباحثة الأميركية جودي ميكوفيتس، المطرودة من أكثر من مؤسسة علمية، والمشهورة بمضللاتها العلمية والطبية بشهادة أكثر الخبراء مصداقية ومواقع التأكد من المعلومات. فتؤكد د.جودي مثلاً أن ارتداء الكمّامات مصيبة معمّمة، لأن الكمّمات نفسها، "تُنشّط الفيروس"، و"تتسبب في إصابة وإعادة إصابة مرتديها، مرة بعد مرة". وقد أزالت منصات "فايسبوك" و"يوتيوب" و"فيميو" هذا الفيديو باعتباره معلومات كاذبة. لكن، للمفارقة المتوقعة، فإن مثل هذه المكافحات لا تلبث أن تزيد أمثال د.جودي بريقاً ونجومية وتأثيراً بين المستعدين بنيوياً ونفسياً لتلقي تخريفاتها... فهي التي يحاول "السيستم" قمعها بعدما فضحته! خصوصاً أنها تتهم شركات الأدوية الكبرى، وبيل غايتس، ومنظمة الصحة العالمية بجعل "كوفيد19" مشروعهم الربحي والاستعماري الأكبر. "خطة الجائحة" أكثر جاذبية، للأسف، من "جائحة المعلومات المضللة" (Infodemic) التي أعلنتها وحذرت منها منظمة الصحة العالمية.

مَن يردّ على هؤلاء، فعلاً؟ هل يتم تفكيك هذه الحكاية بالوتيرة والعمق الكافيَين؟
ثمة من تصدّى ببراعة للمهمة، براعة فاقت ما استطاعته حتى الآن المؤسسات الدولية والمرجعيات العلمية حول العالم. لكنها الردود المغذية، المؤيدة لحالة تقويض الثقة في الاستابلشمنت الدولية والمرجعيات الرصينة: روسيا فلاديمير بوتين. فمع وجود شخصية منتجة لنظريات المؤامرة، مثل دونالد ترامب، على رأس دولة كبرى مثل الولايات المتحدة (إحدى حركات اليمين التآمري المتطرف "كانون" تقريباً تؤلّه تحالف ترامب وبوتين وتؤمن بأنهما يحاربان شبكة عالمية من البيدوفيليين الذين يتاجرون بالأطفال، ويقاومان انقلاباً سينفذه باراك أوباما وهيلاري كلينتون وجورج سوروس)... ومع تكتّم السلطات الصينية على نشأة الفيروس، في ظل كلام عن سجن وقمع وإخفاء أطباء صينيين سعوا للتحذير، واستمرار تكتّمها حتى الآن بخصوص أسلوب "القضاء عليه" في الأراضي الصينية،... تجد الماكينة الروسية لنفسها أفضل ظروف العمل، فتستهدف بدعاياتها خصوصاً أوروبا الوسطى والشرقية، والتي ما زالت ساحة صراع معلوماتي مع الغرب، إضافة إلى الشرق الأوسط، وأميركا اللاتينية والهند.

الشعار الأساس: اللقاحات الغربية تجريبية، لم تحظ بالدراسة الكافية، تكنولوجيا غير مبرهنة فاعليتها في المدى الطويل، وواجهت معوقات في التجارب العيادية، تعجّلوا في الإعلان عنها، أو تباطأوا ليعلنوها في نهاية ولاية ترامب لضربه.

الهدف: سياسي، لخلق الشك وتقويض الثقة في مصادر مشروعة ورصينة للمعلومات. وتجاري، لتسويق اللقاح الروسي الذي اعتمد تطويره على عيّنة تشكّل رُبع العيّنة التي اشتغل بها لقاح "بفايزر"، ولم تُعمّم المعلومات الخاصة به أي على علماء خارجيين/مستقلين لفحص النتائج.

أما نتائج البروباغندا الروسية، وشبيهاتها حول العالم، فمثال عليه ما أعلنه "مركز مكافحة الكراهية الرقمية" في لندن: مجموعات مناهضة اللقاحات، في مختلف المنصات والشبكات الالكترونية، حظيت بـ8 ملايين عضو جديد منذ 2019. إضافة إلى الجماعات القائلة بـ"الطريق البديل" في الحياة والروحانيات والغذاء ومداواة العلل، واليمين المتطرف أينما كان في العالم، وبعض اليسار العتيق هنا وهناك، في العالم الثالث، وحيث تندمج الأنظمة الأقل ديموقراطية أو الاستبدادية مع المشاعر القديمة "المعادية للامبريالية الغربية" من أيام الحرب الباردة، حيث ما زال لروسيا باع الخيال والإعلام و"الحقيقة المغايرة". وها هي قريبتي الثمانينية، تخبرني في اتصال من بيروت: "طبعاً لن آخذ اللقاح!".