الرئيس الأميركي المُنتخب جو بايدن اتخذ قراره واختار احتواء الانتقام الإيراني في طليعة تسلسل تناوله للعلاقة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية مع إقرانه بالتراجع عن سياسة الضغوط القصوى التي تبنّاها سلفه دونالد ترامب. فعل ذلك اقتناعاً بأن هذه السياسة تنزع الفتيل وان ارضاء طهران ليس ممكناً بدون فصل الأولوية النووية كشرط مُسبق عن مسألة الصواريخ الدقيقة وعن المشاريع الإيرانية الإقليمية في سوريا والعراق ولبنان واليمن وغيرها. القيادات الإيرانية اختارت تأجيل نزعتها للانتقام لاغتيال العَالِم المسؤول عن البرنامج النووي الإيراني محسن فخري زاده وأَمْلَتْ على شركائها ووكلائها العودة الى "الصبر الاستراتيجي" اقتناعاً منها ان إدارة بايدن ستحرّرها من العقوبات وتكلّلها بالقدرات المالية لإنجاز المشروع الإقليمي للنظام في طهران. هوس بايدن وفريقه بالأولوية النووية القاطعة يهدّد بنسف كل ما مارسته إدارة ترامب من ضغوط اقتصادية للتأثير في عزم طهران الدائم على سلوك إقليمي "خبيث" – حتى في تعريف فريق بايدن. رأي هذا الفريق هو أن التعويض عن تلك السياسة وارد في توسيع حلقة المشاركين في صفقة جديدة مع إيران ليشمل دولاً عربية كالسعودية والإمارات اضافة الى الدول الست التي وقّعت على الاتفاقية النووية JCPOA- الولايات المتحدة والصين وروسيا وبريطانيا وفرنسا والمانيا.

هذا تطوّر جديد ومهم ويجب تطويره لضمان فعاليته وتأمين المشاركة الجديّة، وليس التجميلية، للدول العربية– الأمر الذي ستُقاومه طهران. أما إذا كان في ذهن فريق بايدن مجرد التزيين، فإن خطورة ما ينوي القيام به تتفاقم وذلك في ضوء عزمه على تلبية الشروط الإيرانية بالعودة الأميركية الأوتوماتيكية الى الاتفاقية النووية بانقلاب تام على كل ما فعله فريق ترامب وبغض النظر عن إنجازات مفيدة للمفاوضات الجديدة على اتفاقية أخرى تماشياً مع متطلبات 2021 مقارنة مع 2015 عندما صاغ رجال فريق بايدن تلك الاتفاقية حينذاك بِقبعات رجال الرئيس الأسبق باراك أوباما.

خطورة هرولة فريق بايدن الى إحياء اتفاقية 2015 انتقاماً من تمزيق فريق ترامب لها عام 2018 إنما يجعل رئاسة بايدن ضائعة بين انتقامين. وهذا ليس حكيماً عند صنع سياسات مصيرية ليس لمنطقة الشرق الأوسط وحدها، وإنما للمصالح القومية الأميركية.

في حديث مهم أجراه الزميل توماس فريدمان مع جو بايدن توضّحت معالم السياسة نحو إيران انطلاقاً من التزام بايدن بالعودة الى الاتفاقية كنقطة انطلاق، تليها المفاوضات. وهذا تماماً ما تمناه وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف – العودة "الأوتوماتيكية" الى اتفاقية JCPOA "بدون حاجة للتفاوض". رأي بايدن وفريقه هو الانطلاق تلقائياً من استئناف التزام الطرفين بالاتفاقية النووية، ثم بعد ذلك تبدأ جولة المفاوضات على مسألة الصواريخ ونشاطات إيران الإقليمية عبر وكلائها في لبنان والعراق وسوريا واليمن بما في ذلك استخدام وتصنيع الصواريخ الدقيقة المحظورة.

الرئيس بايدن قال لفريدمان بوضوح "انظر، الكلام كثير عن الصواريخ الدقيقة وعن مختلف الأمور الأخرى التي تسبب اللااستقرار في المنطقة". انما الواقع هو "ان الوسيلة الأفضل لتحقيق بعض الاستقرار في المنطقة" هي في تناول "البرنامج النووي". قال أيضاً أن أمام إدارته، في حال عدم تعاون طهران في مجال الصواريخ والسلوك الإقليمي، أمامها خيار تطبيق ما يسمى ميكانيزم Snap back أي آلية اعادة فرض العقوبات.

واضح ان الرئيس المُنتخب لا يضع مسألة الصواريخ الدقيقة وسلوك إيران الإقليمي كأولوية متساوية مع الاتفاقية النووية. واضح أيضاً أن المسألة النووية، على أهميتها، ليست الأولوية للدول العربية التي تتلقّى تداعيات السماح للحرس الثوري الإيراني القائم على تنفيذ السياسة الإيرانية الإقليمية بالمضي في سياساته "الخبيثة". وهنا تكمن المفارقة الوجودية.

الخبير الإيراني كريم سادجادبور، الزميل الأقدم في مؤسسة "كارنغي" شارك في الحلقة المستديرة الافتراضية الخامسة والعشرين لقمة بيروت انستيتيوت في أبو ظبي سوياً مع السفير البريطاني الأسبق توم فلتشر والمدير التنفيذي لمؤسسة ك.ك.آر العالمية فانس سيرشوك، والخبيرة التركية في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أصلا ايدن تاشباش.

رأي سادجادبور هو ان لا مجال لابرام ما يسمى بالصفقة الكبرى Grand Bargain بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية ليس لعدم رغبة الولايات المتحدة بمثل تلك الصفقة وإنما "لأن العداء نحو الولايات المتحدة هو جزء أساسي من هوية النظام الإيراني". وبالتالي "ان استمرار النزاع مع الولايات المتحدة هو خطر وجودي existentialist لإيران أكبر بكثير من خطر التقارب rapprochement مع الولايات المتحدة". ولذلك ان ما يتداوله البعض عن تلك الصفقة الكبرى "ليس وارداً". أشار سادجادبور أيضاً الى "مفهوم خاطئ شائع حول النزاعات الطائفية في الشرق الأوسط" مشيراً الى "الميزة غير المتكافئة لإيران فوق منافسيها السُنَّة مثل السعودية ذلك لأن كل الراديكاليين الشيعة عملياً على استعداد للمحاربة والقتل من أجل الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بينما كل الراديكاليين السُنّة، فعلياً، مثل القاعدة وداعش، يريدون الانقلاب على الحكومة في السعودية".

توم فليتشر، مدير كلية هيرتفورد في جامعة أوكسفورد، رأى ان "في ظل عدم قدرتنا على إبرام الصفقة الكبرى الإقليمية مع إيران، الأفضل أن نقتطف جزءاً منها لعلنا نتمكن من التقاط هذا الجزء وخلق الأجواء للبقية لاحقاً". مساوئ هذا الموقف يكمن في تشجيع فريق بايدن على هذا النمط من التسلسل الذي يُعرّض المنطقة العربية لمخاطر وجودية. فليتشر يعتقد أن إدارة بايدن "ستُركّز على اعادة جمع الفتات (من الاتفاقية النووية) التي يشعرون انها قابلة للإصلاح بالسهولة الأكثر. وهنا يبرز الإطار النووي، ضمن مجموعة تحديات صعبة جداً، كالحلقة الأسهل". ولكن، تابع فليتشر ان تأخير المرحلة الثانية لفترة طويلة لن يكون ممكناً "لأن حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين سيطالبون بوتيرة أسرع لتحقيق التقدم على المسائل الأخرى"، وقال ان فريق بايدن العائد الى السلطة بعدما كان فريق أوباما "يدرك ان عليه أن يتعاطى مع السلوك الإيراني الأوسع في اليمن وسوريا ولبنان والعراق وغيره".

إنما الأمر ليس عائداً قطعاً أو حصرياً الى الرئيس الأميركي وفريقه المعروف بتعاطفه التلقائي مع إيران واعتقاده ان الجمهورية الإسلامية الإيرانية مستعدّة لإصلاح منطق النظام القائم على التوسّع خارج الحدود الإيرانية كأحد أهم أُسس عقيدته. التحدّي الأكبر آتٍ من الطرف الإيراني وبالذات "الحرس الثوري" الذي ينظر الى عودة إدارة بايدن الى الاتفاقية النووية ورفع العقوبات عن إيران بأنه انتصار له سيّما لأن الأموال التي سيُفرج عنها ستموّل سياساته في لبنان والعراق وسوريا واليمن وستمكّنه من تطوير قُدرات الصواريخ الدقيقة بدقة أكبر. فإعادة إحياء الاتفاقية النووية تلقائياً مع رفع العقوبات يقع في مصلحة المتشدّدين في طهران وليس في صالح المعتدلين، كما يطيب للبعض أن يسوّق.

"في اعتقادي، أن إحدى المسائل الثابتة التي شهدناها عبر السنوات هي ضرورة عدم التقليل من شأن قدرة الحكومة الإيرانية على تخريب أفضل الخيارات أمامها" قال فانس سيرشوك. وأضاف ان الانتخابات في السنة المُقبلة ستكون امتحاناً لنسبة "المرونة والإبداع لدى الجانب الإيراني بغض النظر عن الغرائز والرغبات الآتية من واشنطن".

غريزة قادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية لن تنحاز عن عقيدتها، وكذلك الأمر في غريزة قيادة تركيا اليوم التي يُمثلها الرئيس رجب طيب أردوغان. كلاهما يصرّ على التوسّع كأساس للأمن القومي لبلاده، وأردوغان مقتنع أن استعادة موقعه الإقليمي يتطلّب قطعاً أن تكون "آثار أقدامه العسكرية خارج حدود بلاده"، بحسب قول أصلا ايدن تاشباش. رأيها أن هناك حاجة للتدقيق في هذا المنطق من أجل المصلحة القومية التركية وتقول "بكلام آخر، ان اغلاق أو تطويق الحدود التركية (مع سوريا) بالمجموعات الجهادية لن يجعل تركيا أكثر أماناً كما يُعتقد... فهذه ليست تركيا التي نتمناها".

رأيها أن مستقبل التفوق العالمي لن يكون في المغامرات العسكرية خارج الحدود وإنما هو في الإبداع وفي اكتشاف اللقاح للوباء. لكن استعادة البلاد التي اختطفتها القيادات التركية والإيرانية التوسعية لن يكون سهلاً سيّما في عهد إدارة أميركية مهرولة خوفاً من الانتقام.