في ميقات يومي منضبط كنا ننتظر أوبة والدي -رحمه الله- من العمل، في صورة اعتدنا عليها وألفناها، وألفها أغلب أبناء جيلي وأكثر ما ألفنا فيها وأحببناه جلب آبائنا للصحف اليومية آنذاك، فقد كانت الدولة عن طريق وزاراتها ومؤسساتها تشجع وتدعم الصحف المحلية وتلزمها بالاشتراك فيها لتوزيعها على منسوبيها بمقابل مادي، فكانت تلك سلوتنا ومصدر متعتنا وابتهاجنا نتقاسم صفحاتها ونديرها بيننا نلتهم ما فيها بقدر اهتمام كل واحد منا.

صورة ارتسمت في داخلي، وأصبحت جزءاً من روتين حياتي لاحقاً، أجزم أن جيلي كون ثقافته ومعرفته عن طريق الصحف وتتبع الملاحق الأدبية والثقافية ومعارك الكبار فيها والاطلاع على ما يجري في هذا الكون الواسع كغيري من أبناء جيلي ولكنها تصاريف الأيّام، وما أقساها حين تصيبك في مستقر الذاكرة، وتعبث بمواطن الحنين فيها. فها هي الصحف تزوي وتضمحل وتضمر، وتكاد تغادر محاضنها في الورق إلى الفضاء الإلكتروني إلا بقية من حياة ورمق من وجود يغالب الموت والتلاشي الوشيك، صورة لم نعتد عليها، وواقع بات مفروضاً علينا التعايش معه بأي ثمن، وكيف ما كان.

هل علينا أن نصرخ بالصوت العالي لنقول: يا أهل الاختصاص والهمّة في (وطن أقرأ) أدركوا الصحف الورقية قبل موتها فإنها ذاكرة أجيال حفرت في الصخر، وغالبت المستحيل لتصنع فجر الكلمة، ونافذة الخبر، ومشرق الرأي والفكر..

هل نصوغ لكم ميزات الصحف الورقية في مقابل الإلكترونية؟ لتدركوا ضرورة «إسعافها» وتنشيط قلبها الذي أرهقه التجاهل، وأضناه الإهمال، وهي تكابد اليوم للظهور، وتنافح من أجل البقاء.

هاكم في ميزان الفضائل والميزات وأحسبوا أنها الأقل كلفة من حيث اشتراطات حضورها ومثولها بين يدي القارئ فلا تحتاج جهازاً ذكياً، ولا شحناً كهربائياً ولا خدمة متصلة للإنترنت.. سهلة التقليب بين يدي قارئها، طيعة له، لينة يغوص في طياتها ينسى الوقت ويعيش اللحظة، رفيقته في حله وترحاله، مضطجعاً أو قائماً، يلتقط منها ما يشاء للاحتفاظ به، يزهو من تنشر له مادة في صفحاتها لها عبق الأزهار وريق الأحبار.. نكهة تمازج الأخبار والصور والآراء فتخلق لها حالة فريدة، لصيقة بها، وقرينة لها، أخبارها ثقة منسوبة إلى جهة بعينها لا تحتطب بليل، ولا تلمّ الأنباء من كل طرف، حدود المسؤولية فيها منضبطة، مبسوطة الخدمات لمن يشاء حين الحاجة.. وفوق ذلك إنها ذاكرتنا التي بها نحيا وعليها نتكل في التوثيق والاسترجاع.

اعلم أن أبناء هذا الجيل منحازون للتكنولوجيا وعالمها، وهذا أمر طبيعي ومفهوم، وقد لا يجدون في الميزات التي أشرت إليها أعلاه قيمة تستحق المحافظة على الصحف الورقية، لكونهم لم يعايشوا ماضيها، ولم يختبروا إحساسها المميز وهي تتقلب بين يدي قارئها بانسياب جميل وخشخشة الورق لحن عذب على شفاه الزمن، لهم أن يتغنوا بميزات الصحافة الإلكترونية وسنسايرهم في ذلك، ولكننا أيضاً سنقاوم موت الصحافة الورقية، فإن الحاجة إليها ماسة اليوم ليس من قبيل التفضّل عليها بالحياة ولكن من زاوية الحاجة الضرورية لها، فهي لسان الوطن الصادق والمنافح في ظل التكالب الإعلامي وترصّده بالمملكة وإنجازاتها من الجهات المغرضة.

فالصحف الورقية كانت، ولم تزل، في خط المقدمة بما يطرحه كتابها من آراء وأفكار ومقترحات، يقول الدكتور سعود كاتب في تويتر: «‏مؤلم جدّاً أن نرى كتّاب الرأي وقد انفرط عقدهم تباعاً وآثر كثير منهم التنحي عن الكتابة نتيجة أزمة الصحافة الورقية.. أتمنى من وزارة الإعلام ومن جمعية كتاب الرأي السعوديين تدارك ذلك، فهؤلاء الكتّاب دعامة أساسية من أهم دعامات الإعلام السعودي وخسارتهم لا تقدر بثمن».

أضم صوتي إلى صوت الدكتور سعود في المناشدة لأصحاب القرار بمعالجة أوضاع صحفنا الورقية وما تعانيه على المستوى المادي، الذي انتهى بها إلى معالجات لم تستثنِ الكادر البشري والمنقولات المادية، حيث استغنت أغلب الصحف عن أكثر من نصف العاملين بها، ورهن بعضها مقاره وآثر استئجار شقق صغيرة لا تفي بالغرض، وقُطعت المكافآت المحفّزة للكُتّاب، وتعطلت المطابع.. وغيرها كثير..

لهذا فإننا نناشد القيادة الحكيمة أن تقيل عثرة صحفنا الوطنية، وتدعمها مادياً أسوة بما تكرمت به مع الأندية الرياضية، والأدبية وغيرهما ممن أخذت بناصيته ودعمته ورعته حتى ضمن البقاء ويمكن معالجة أوضاع صحفنا بصور شتى ليس أقلّها من تجميع بعضها لتقليص كلفتها، وتجويد أدائها، وتحسين مخرجاتها. فبعضها يحتاج إلى مراجعات كبيرة، واشتراطات صارمة لتحسين أدائها ومخرجاتها، وتقديم ما يُقنع لضمان البقاء في وطن لم يعد يحتمل المجاملة والحضور الهامشي غير المؤثر..

نجدد أملنا في دعم صحفنا الورقية، لنراها مرة أخرى في كل مؤسسات الدولة والوزارات والشركات وأن تفرض على مؤسسات الخطوط الجوية الناقلة وخطوط السكك الحديدية والبنوك المتضخمة والشركات العاملة. وليتنا نلمس الاستجابة عاجلاً، فقد أوشكت هذه الصحف على الموت والفناء والتلاشي، وفي ذلك خسارة كبيرة كما يقول المحامي نزيه عبدالله موسى الذي يشتري يوميا أعداداً من الصحف ويوزعها على من حوله من أهله وأصدقائه والعاملين معه، فلا زال بيننا من يُؤْمِن برسالتها ويحن إلى جمال طرحها. ويؤكد الزميل الكبير مشاري الزايدي أن المنصات الإعلامية من تويتر والفيس والواتس وغيرها تتغذى من مخرجات الصحف والإذاعات والوكالات، بمعنى لو تم تجريد هذه المنصات منها وحرمانها من مخرجات الإعلام التقليدي ماذا سيبقى لها!!