تحتاج تركيا أردوغان إلى مراجعة جذرية وشاملة للخيارات التي اتخذتها في السياسة الخارجية. فالسنة 2021 تحمل نذر علاقات متأزّمة وأكثر توتّراً مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى التشنّجات مع الجوار العربي. وتشير مجريات التقارب بين تركيا وروسيا إلى أنه دائم المدّ والجزر، بدليل تناقض التوجّهات في ليبيا وتوالي الإخفاقات للاتفاقات في شمال غربي سوريا، وأخيراً في ناغورني قره باخ وإن كانت موسكو فضّلت مؤقتاً التعاون مع أنقرة لإنهاء الحرب، لكن صيغة الإشراف المشترك على وقف إطلاق النار لا تشكّل بالنسبة لروسيا بديلا من التنسيق مع الولايات المتحدة وفرنسا، ضمن «مجموعة مينسك»، لترتيب سلام دائم بين أرمينيا وأذربيجان.
وفي الوقت الذي كان أردوغان يحتفل مع إلهام علييف بالانتصار في الحرب، لا بدّ أن أفكاره كانت في مكان آخر، في بروكسيل، وكذلك في واشنطن، إذ أن التقارير نقلت إليه معلومات مؤكّدة عن استهداف تركيا بالعقوبات. صحيح أنه استبقها بالتقليل من أهميتها وتأثيرها، إلا أن الليرة التركية واصلت هبوطها المقلق كمؤشّر لما سيكون. وإذا لم تكن الانعكاسات الاقتصادية المباشرة للعقوبات لا تقلقه فإن ما يفوقها تأثيراً هو النقاش الأوروبي المتصاعد الذي يعمّق الهوّة السياسية مع أنقرة جرّاء سلوكها في منطقة شرق المتوسّط، وقبل ذلك في ليبيا، وأخيراً في أذربيجان. وبالتوازي، ستعني أي عقوبات أميركية أن دونالد ترامب أنهى نمط المجاملة الذي عامل به أردوغان، وعمد الأخير إلى استغلاله، فأي إدارة أميركية لا تستطيع أن تمرّر لـ«حليف استراتيجي» اقتناء صواريخ «اس 400» الروسية بما في ذلك من عبث تركي فجّر خلافات داخل حلف شمال الأطلسي (الناتو).
اختار الاتحاد الأوروبي حزمة رمزية من العقوبات، لكنه أبقى خياراته الأوسع على الطاولة، ولذلك أسباب منها اعتراض «الناتو» الذي يفضّل حلّ المشاكل بالتفاوض، ومنها أيضاً تحفّظ ألمانيا التي تواصل مساعيها الديبلوماسية، ومنها كذلك ممانعة إيطاليا والمجر ورومانيا حفاظاً على مصالح تجارية لها مع تركيا. غير أن افتتاح مسار العقوبات، ولو بشكل محدود، حمل إلى أردوغان إنذاراً بإمكان تشديدها ما لم يبدّل أسلوبه، فالدول التي يراهن اليوم على مساندتها لن تستطيع لاحقاً مواصلة التغريد خارج السرب الأوروبي الأكبر إذا استمرت التحدّيات التركية لليونان وقبرص. ثم أن عنصراً آخر سيستجدّ مع إدارة جو بايدن التي لم تبدِ لأنقرة أي ودّ مسبق، بل يُتوقَّع أن تكون أكثر تشدّداً.
طوال الأعوام الأخيرة حاولت تركيا التوفيق بين انفعالات أردوغان وخياراتها الاستراتيجية أو اعتماد مزيج بينهما: أن تكون حليفاً مهمّاً في «الناتو» وتسعى في آنٍ إلى تحالف مع روسيا، أن تبقى مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي وتتحوّل مصدر إزعاجٍ ردّاً على تأجيل ضمّها، وأن تكثر من تدخّلاتها هنا وهناك لتجميع الأوراق في يدها وتأمل في أن يُعترف لها بنفوذ إقليمي.. لكن مشكلة هذا النهج أنه يوصلها دائماً إلى ما تتجنّبه، أي حسم خياراتها. ففي كل التقديرات لا تستطيع تركيا سياسياً واقتصادياً وعسكرياً التمرّد على أميركا، ولا الابتعاد عن أوروبا و«الناتو»، ولا تعريض نفسها لعقوبات بحثاً عن نفوذ. والأهم أنها لم تدرك أن تزعّمها للإسلام السياسي بصيغته «الإخوانية» لم يعد وصفة صالحة لتحصيل أي نفوذ.